من معقّد إلى معقّد: السياق المتغير للحرب | الكاتب السياسي مجدي منصور يكتب عن انطباعاته الأولية على عملية إسرائيل ضد إيران

في لقاء أواخر عام 1992 في القاهرة بين الرئيس المصري “حسنى مبارك” ووزير الخارجية الإسرائيلي وقتها “شيمون بيريز” تحدث بيريز عن الرؤية الإسرائيلية للأمن فقال:
– أن حجم الدولة أو تعداد سكانها لم يعد الآن ضروريا لتأكيد قوتها، فالقوة في العصر الحديث تعتمد على عنصرين: الاقتصاد والتكنولوجيا.
– وكان “بيريز” يرى للأمن العسكري وجهين: وجه دفاعي ووجه هجومي – وكلاهما لم يعد يعتمد الآن على حجم الجيوش أو أسلحتها التقليدية. فالوجه الهجومي يعتمد الآن على أسلحة الدمار الشامل (الصواريخ والأسلحة النووية)، وأما الوجه الدفاعي فهو التحقق من أن المجال المحيط بالدولة لا تتجمع فيه أو توجد أية أسلحة للدمار الشامل.
– وألمح “بيريز” دون أن يقولها صراحة أن إسرائيل الآن في أفضل وضع تحقق لها منذ قيام الدولة: فقدرتها الاقتصادية والتكنولوجية عند أعلى مستوى إلى درجة أن الولايات المتحدة نفسها تلجأ إليها في حل كثير من مشاكل الصناعات العسكرية. وكذلك لجأت إليها الصين في حل مشكلة معقدة واجهتها في إنتاج الصواريخ، وهي تتعلق بالتوجيه.
– ويضيف “بيريز” أن إسرائيل في هذه المجالات أصبحت قوية، وفى واقع الأمر فإنها أصبحت قوية جداً. وفى مرة من المرات في القاهرة مال برأسه مقتربا من إلى جواره (عمرو موسى – وزير الخارجية المصري وقتها) وكرر هذا القول وتساءل موسى فيما بعد مع زميل له (المستشار أسامة الباز) حضر نفس الاجتماع: “هل كان ما قاله بيريز تقرير حقيقة أم كان تحذيرا مبطنا للقاهرة؟”.
وقال “بيريز” أيضا إن “المجال المحيط بإسرائيل لم تعد فيه أسلحة دمار شامل. وهذا يطمئننا أكثر إلى مرحلة من التعاون غير المشروط من أجل المستقبل. وعلى أي حال – كذلك قال – فمصر ليست لديها مشكلة أمن بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل، وبالتالي “فإن حكمة قيادتها الساعية للسلام جنبتها مخاطر سباق السلاح في هذه المجالات المعقدة”. وكان الخطر في المجال العربي من “محاولات العراق لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وقد تمت تصفية هذا الخطر بفضل حماقة القيادة العراقية”.
ثم يصل بيريز لبيت القصيد ويضيف “بيريز”:
أنه “ما زالت هناك بؤرتان محتملتان للخطر وهما إيران وباكستان – وباكستان بعيدة ولديها من المشاكل مع الهند ما يكفيها. وأما إيران فهي المشكلة الحقيقية الآن. لكن إسرائيل متنبهة لها، ويحسن بالآخرين أن يتنبهوا لأن إيران إذا حصلت على إمكانية نووية سوف تستعملها غطاء لجيوش الإرهاب تزحف بها إلى العالم العربي.”
(وفى اجتماع على أعلى مستوى في القاهرة استمر ساعة ونصف الساعة، انشغل “بيريز” لمدة خمسين دقيقة يتحدث عن “الخطر الإيراني”، وأما بقية القضايا الأخرى فانحشرت كلها في أربعين دقيقة فقط!).
أي أن إسرائيل تتابع ما يجرى في إيران منذ زمن، وأنها تراقب تطورها النووي عن كثب.
واليوم في أجواء لا يلمع فيها سوى ألسنة لهب ولا يظهر فيها سوى لون الدم وفى لحظة مشحونة بكافة أنواع الانفعالات ومفتوحة على كل الاحتمالات المتشابكة والمتناقضة والاتجاهات المتضاربة قررت إسرائيل تنفيذ هجماتها المنسقة مع الولايات المتحدة الأمريكية ضد عدوها الاستراتيجي إيران. ولى هنا عدة ملاحظات شخصية على العملية الإسرائيلية:
الأولى- إن إسرائيل تُعد وتخطط لتلك العملية منذ شهور عديدة وربما من سنوات، دون أن تصل أي تفصيله من الخطط العملياتية خارج هيئة الأركان الإسرائيلية وذلك أمر يُحسب لها.
الثانية- لي على العملية ملاحظة شكلية وهي، أن إسرائيل اختارت شهر يونيو (2025) «لضرب وإجهاض» المشروع الإيراني وهو نفس الشهر الذي قامت فيه بضرب وإجهاض المشروع المصري الناصري في يونيو 1967 ولنفس الأسباب (مساندة الحق الفلسطيني، التوسع المصري خارجياً، المشروع النووي، مشروع الصواريخ).
الثالثة- أن القيادة العسكرية الإيرانية وقعت في نفس الخطأ الذي وقعت فيه القيادة العسكرية المصرية في يونيو67 وهو «المبالغة في القدرات الذاتية والتقليل من قدرات العدو».
الرابعة- القيادة الإيرانية وقعت في فخ التصريحات الأمريكية الخادعة من “أن الضربة الإسرائيلية ليست وشيكة” وأن الأمريكان سيمنعون الضربة الإسرائيلية طالما المفاوضات الأمريكية الإيرانية مستمرة.
الخامسة- إن حجم الاختراق الإسرائيلي للمنظومة الأمنية الإيرانية أكبر من أي توقع أو محاولة للفهم ، فالإسرائيليون لا يعلمون فقط أدق التفاصيل عن الأماكن الهامة (كالمواقع النووية ومواقع صناعة وتخزين الصواريخ البالستية) و لا فقط “حركة” القيادات العسكرية والعلمية الكبرى في طهران بما في ذلك أماكن تواجدهم مما سهل عملية اغتيالهم بالقصف الجوي، لكن أيضاً قيام الموساد(المخابرات الخارجية) بإقامة قاعدة لإطلاق المسيرات على الأراضي الايرانية مما يظهر أن إيران وأجهزة مخابراتها كانت نائمة في العسل لا تعلم ما يجرى داخل أراضيها ، فضلاً عما يُعد ويجهز لها خارج حدودها. وذلك أمر يظهر مدى التغلغل الإسرائيلي النافذ حتى العظام في جسد ما يسمى محور المقاومة من ذراعها الطويل “بيروت في لبنان” واصلاً إلى قلب المحور ذاته في “طهران إيران”!
السادسة- إن إسرائيل باستخدامها لأسلوب «الاغتيال» للقيادات المختلفة بهدف “الإحباط والردع والاخضاع وإظهار المقدرة” تُجسد بوضوح معنى مبدأ «خدمة التكتيك المؤقت في تحقيق الهدف الاستراتيجي الدائم».
السابعة-إن تلك العملية أظهرت بوضوح أن إسرائيل هي أكبر قوة جوية في الشرق الأوسط، لأنها جزء لا يتجزأ من المنظومة الجوية الأمريكية المقتدرة.
الثامنة- إن ترامب يريد بالضربة الإسرائيلية لإيران الضغط عليها لكي تقبل بشروط الصفقة الأمريكية التي عرضها عليها العم ترامب. ومعرف أن أهم ثلاث مبادئ تحكم تحركات قيصر البيت الأبيض القديم الجديد “دونالد ترامب” هي:
1- دائماً هاجم، هاجم، هاجم بلا توقّف.
2- أنكر كلّ الأخطاء ولا تعترف بأيّ منها.
3- لا تعترف أبداً بأيّ فشل أو بنتائج أيّ هزيمة!!
ينما يريد نابليون إسرائيل الجديد بنيامين نتنياهو من تلك العملية في النهاية إسقاط النظام الإيراني وتفكيك دولة الملالي.
أي أن ترامب الأمريكي يريد الضغط على النظام الإيراني وصولاً «لإخضاعه»، بينما نتنياهو الإسرائيلي يريد «اضعافه» وصولاً «لتدميره». وما بين «الاخضاع» الذي يريده ترامب و«التدمير» الذي يريده نتنياهو تدور المناقشات الأمريكية الإسرائيلية اليوم، ولا أحد يعلم إلى ماذا ستنتهي؟
وفي حين أن ترامب يريد أن يُقال عنه أنه «الرجل الذي فرض السلام»!
فإن نتنياهو يريد أن يطلق عليه أنه «الرجل الذي انتصر في الحرب»!
التاسعة- إن تلك العملية أثبتت ان إيران ليس لديها مخابرات قوية قادر على الوصول لما يُحاك له داخل البلاد قبل خارجها ، كما أنها ليس لديها نظام دفاع جوى قوى قادر على مواجهة القوة الجوية الإسرائيلية، وأن كل ما كان يُقال عن القدرات الذاتية العلمية في هذا الأمر كان مجرد سحابة من الوهم سقطت مع إطلاق أول صاروخ من أول طائرة اخترقت المجال الجوي الإيراني.
العاشرة- إن إسرائيل قبل بداية عمليتها ضد إيران، قامت بتقليم أظافر إيران عبر وكلائها في كل من لبنان (حزب الله)، و(الحوثي) في اليمن، وقبله إسقاط نظام الأسد في سوريا.
الحادي عشر- إن إسرائيل استغلت انشغال روسيا في حربها ضد أوكرانيا، والصين في مساندة الصين لروسيا، وكذلك كراهية عرب الخليج لإيران وصدام أمريكا ترامب في الأيام الأخيرة في المفاوضات مع إيران ووجهت ضربتها بعد أن حصلت على الضوء الأخضر الأمريكي.
الثاني عشر- إن إيران أمامها خيارين أحلاهما مُر:
الأول – أن ترد الصاع صاعين لإسرائيل وخلفها الولايات المتحدة الأمريكية وذلك اختيار تباعته مدمرة وقد يجد النظام نهايته «شهيداً».
الثاني – أن تقبل إيران بصفقة ترامب على النموذج الليبي، ولكن ليس هناك ضامن الا يتكرر معها سيناريو نهاية العقيد وجماهيريته العظمة بأن أصبح «مقتولاً».
وما بين خيار الشهادة على طريقة الامام الحسين، وخيار القتل على حسب نهاية العقيد القذافي يقف النظام في إيران الأن يجمع ويحسب ويطرح ويقسم، لعله يصل للقرار الصحيح.
والأن وفي تلك اللحظات الاستثنائية يقف الخارج في حالة ترقب وانتظار، بينما الشرق الأوسط في حالة احباط ودمار على مستوى «الشعوب» وكراهية وفوضى على مستوى «الأنظمة» والأمة العربية بأسرها تجد نفسها وقد سُدت أمامها كل الطرق وهي تبحث عن منفذ ولا تجده، فعرب اليوم معترفين بالعجز ومستسلمين لليأس ومتخبطين في الظلام!
ولعل تلك اللحظة ينطبق عليها مقولة الدكتور “غسان سلامة” (أستاذ العلوم السياسية بجامعة السوربون) حين قال في مدخل كتابه عن (المجتمع والدولة في المشرق العربي) واصفا منطقة الهلال الخصيب:
((إن رائحة الموت هي الرائحة التي تملأ أجواء هذه المنطقة، والأعلام السوداء وصور الشهداء هي أول ما يطالع العين أينما توجهت))!