الطائف: من القدر الإقتصادي إلى القضاء والقدر |سلسلة تاجر الامل وبياع الخواتم (2)
يعرض الملف الاستراتيجي للمحور الثاني من سلسلة الطائف: تاجر الامل وبياع الخواتم، حيث تناقش الشخصيات المشاركة السؤال التالي : بمقاربة مختلفة يمكن النظر إلى تعطّل الدساتير من 1943 إلى الطائف بوصفها انعكاسًا لتعطّل الوظيفة والدور اللبنانيَّين في الفعل الاقتصاديّ. إلى أيّ مدى أدّى غياب الرؤية في التعامل مع التغيّرات الاقتصاديّة في المنطقة وفي العالم دورًا في وصول تطبيق الدستور إلى ما وصل إليه ؟ ان فهم الأزمة الإقتصادية – السياسية الراهنة والتنبؤ بمآلاتها يتعلق ايضا" بفهم مدى تأثير تغير دور لبنان كجزء من منظومة اقتصادية اقليمية. فبالقدر الذي استطاع معه لبنان ان يطرح نفسه كجزء من الحاجة الاقليمية لاستقراره الاقتصادي بالقدر الذي انعكس ذلك دوما" في استقراره السياسي. في ظل دستور 1943 لعب لبنان دور الوسيط التجاري بين الغرب والخليج العربي الذي فاض بثروات النفط التي تطلبت اعادة تدوير متحصلاتها الى الاقتصادات الغربية دورا" ما للبنان لتمتعه بافضليات مصرفية وتشريعية وثقافية. من سوء حظ الطائف انه لم يجد مكانا" لبنان في عالم تغير كثيرا" في 15 عاما" ضاع فيها لبنان. فهل يكون مستقبل هذا الدستور مرتبطا" بقدرة لبنان على اعادة انتاج دور اقتصادي ما له في بيئة اقليمية متغيرة ام اننا نحتاج لمخاض جديد ينتج اتفاقا" جديدا"؟ (د. مازن مجوز)
لمن فاتته متابعة المحور الاول:
الطائف: حدود المسؤولية بين النص والتطبيق| سلسلة تاجر الأمل وبياع الخواتم (1)
الاميرة حياة ارسلان رئيسة هيئة تفعيل دور المراة ، منسقة مجلس مجموعات من الثورة
إذا اردنا ان نبدأ بدستور العام 1926 الذي كان على شاكلة دستور الجمهورية الفرنسية الذي لا يزال دستورنا حتى اليوم مع التعديلات التي اضافها اتفاق الطائف، كان هناك نظرة مريبة له بأنه هو أقام محاباة للموارنة أكثر وان فرنسا الام الحنون للموارنة، وأنها كانت تغلب مصالح الموارنة المسيحيين على مصالح الباقيين، وبالتالي هو ما جعل المسيحيين في أساس ميثاق ال 43 يلتفتون الى فرنسا والمسلمين يلتفتون الى العالم العربي. لكن المشكلة أن الدستور لم يتبع خطط مفصلة في الناحية الاقتصادية، لا بل كان اللبناني يعتبر هواء لبنان الحلو وجباله وسهوله ووديانه، هي عوامل الجذب الاكبر للسياحة وأن السياحة هي أهم موارد لبنان وأنه يعتمد على المغتربين، الذين كانوا يرسلون أموال لذويهم لمساعدتهم، كما كنا نعتمد على إجتذاب المصطافين خصوصاً عندما حصلت الفورة في الخليج، وأصبح هناك امكانات مادية كبيرة جدا وكانت اهتمامتهم زيارة لبنان، وكلنا نعرف كم إنتعش لبنان اقتصاديا نتيجة حضور الخليجيين فيه، لكن في هذا الوقت بدأت اهتمامات فرنسا الام الحنون تذهب نحو التفتيش عن مصالحها في الخليج ومع العالم العربي، وكل هذا لم ننتبه له ولم نضع خطط اقتصادية تكون طويلة الامد لحياة لبنان واستمرايته. صحيح ان العوامل الآنفة الذكر هي عوامل تعتبر كمداخيل ريعية للبنان ولم تكن سيئة وكانت ضرورية ولكن كان يجب ان تتزامن مع مداخيل إنتاجية هذا الشيء لم ننتبه له.
والسبب ان اللبناني خرج من الحكم العثماني الى الانتداب الفرنسي وكان في كل الحالات هناك من يفكر عنه ومن يخطط عنه واهتماماته كانت بكم هو قادر على تأمين مصلحة طائفته ولم يواكب العصر من بابه الاقتصادي باعتبار أن الاقتصاد هو العنصر الاساسي في حياة أي دولة من الدول.
ومر على لبنان عهود اقوى من غيرها ومنتظمة اكثر من غيرها كعهد كميل شمعون، حيث السياحة في عهده كانت مهمة جدا وشخصيته مميزة كانت تشكل حضور مهم للبنان في العالم العربي باسره ، كذلك عهد فؤاد شهاب الذي تميز عهده بنجازات مهمة جدا، وخاصة على مستوى تنظيم البلد والمؤسسات والتنظيم المدني والتعليم العالي، وانشاء المجلس الاعلى للسياحة، وتنظيم وزارة الاعلام وتنظيم وزارة التخطيط وإنشاء المجلس الوطني للبحوث العلمية، إنجازات كبيرة والكل يعلمها .
للاسف لم يتم متابعة الاصلاح الذي قام بها الرئيس فؤاد شهاب، لأنه حتى الاصلاح كان فيه تسييس وكان هناك اشكالية كبيرة في ذهنية المكايدة، بأنه لماذا فعل فؤاد شهاب أمر معين ونحن لا نريده. ثم دائما كان لدينا تقطع في السياسة بدل الاستمرارية يأتي العهد الجديد وينسف العهد الذي قبله، مع العلم أن الحكم إستمرارية ويجب البناء على ما تم بناءه قبله ، خصوصا اذا كان لمصلحة البلد. للأسف الشديد هناك الكثير من الانجازات التي قام بها شهاب لم يتم السير باصولها من بعدها، لا بل هناك الكثير من الاماكن اصابها الشلل، وهذا بالتأكيد سيوصل لبنان الى اقتصاد مذر كوالواقع الذي نعيشه حاليا وللاسف الشديد.
الدكتور طلال عتريسي ، اكاديمي وباحث سياسي كاتب في الشؤون الإقليمية والحركات الإسلامية والشؤون الاستراتيجية ، عميد سابق للمعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعة اللبنانية.
تعطل الوظيفة الاقتصادية للبنان والدور الاقتصادي الذي كان عليه منذ نشأة لبنان وبعد الاستقلال كان نتيجة تحولات حصلت في المنطقة، ولها علاقة بهذا الدور الاقتصادي. الدور الاقتصادي للبنان كما هو معلوم هو انه كان يعتمد على صلة الوصل بين الداخل العربي الخليجي وبين الخارج الغربي أي كان هو سوق وسيطة، ويعتمد على السياحة الخليجية وبعض السياحة الاوروبية، كان يمارس الترانزيت الاقتصادي بالاضافة الى صناعات محلية وانتاجية مقبولة في المجال الغذائي والحلويات وفي مجال صناعة الثياب والاحذية، وإستطاع خلال سنوات طويلة أن يلعب مثل هذا الدور، وأن يكون إقتصاده منتج جزئيا ويعتمد على هذا الترانزيت الى الداخل العربي على مدى سنوات طويلة. الذي تغير ان هذا الداخل العربي لم يعد مغلقا كما كان في السابق ولم يعد تواصله مع الغرب ومع اوروبا محدودا او ممنوعا كما كان في السابق.
تغير هذا الداخل العربي وباتت علاقاته مفتوحة ومباشرة والمدن العربية لم تعد مدن بسيطة وريفية أصبحت تضاهي العواصم العالمية من حيث البناء والشركات والفنادق والمؤسسات والتجهيزات التقنية الحديثة والخبراء الاجانب، الذين يعملون فيها، والاستيراد المباشر من الخارج. اذا هذا الدور الاقتصادي للبنان إنتهى وفقد هذه العلاقة الوثيقة مع الداخل العربي واصبح الداخل العربي يتعامل مباشرة مع الخارج.
بقيت مسألة السياحة الخارجية: خلال حرب 15 سنة انتهت هذه السياحة وتراجعت وتوقفت وضرب الاقتصاد المحلي خلال تلك السنوات وصولا الى اتفاق الطائف، بمعنى ان كل ما سبق اتفاق الطائف لم يكن له علاقة مباشرة بتعطيل الدستور، باستثناء فترة الحرب الاهلية ونمو اقتصاد الحرب واقتصاد التمويل الخارجي وتمويل الميلشيات المسلحة على حساب الاقتصاد الحقيقي المنتج .
المسالة الثانية، ما بعد الطائف حيث اعاد الاتفاق النظر في طبيعة الدستور واصبح هناك دستور جديد للبلاد واعاد النظر في حصص الطوائف ومسؤولياتها لاعادة انتاج ما يتناسب مع نتاائج الحرب الاهلية ولاعادة توزيع مختلفة للحصص الطائفية
لم ينظر الى الاقتصاد بشكل جدي وبشكل مختلف، بالعكس كان المشروع الاقتصادي ما بعد الطائف يستلهم تجربة ما قبل الطائف، بمعنى ان لبنان سيكون بلد سياحي، وانه سيعتمد على العلاقات مع الخارج وعلى الدعم الذي تقدمه الوظيفة المصرفية للبنان والفنادق من دون الاعتماد على الانتاج المحلي فتحولت الصناعات الصغيرة والبسيطة في لبنان الى اموال موضوعة في المصارف واقفلت هذه المؤسسات لحساب فتح الاسواق امام المنتجات الاجنبية، هذا أيضا ساهم في ضرب الاقتصاد المحلي وبالتالي لم يكن هناك رؤية اقتصادية متجانسة مع التحولات التي حصلت في لبنان، ولم يكن هناك رؤية اقتصادية منسجمة مع التحولات التي حصلت في لبنان ولا منسجمة مع ما بعد الحرب الاهلية مع ضرورة تنمية الصناعة المحلية والزراعة والاعتماد على الذات لا فقط على السياحة. هناك تجارب كبيرة في العالم العربي ترينا انه من الممكن في اي لحظة ان تتوقف حتى السياحة. ان اعادة اعمار بيروت وفقا لمنظور السياحة الخارجية لم يحقق النتائج المطلوبة والرهان على السلام مع اسرائيل ايضا لم يحقق النتائج المطلوبة لانه فشل على اساس ان هذا السلام سيخلق تنمية في المنطقة .
اذا” كانت الرهانات خاطئة على المتغيرات في المنطقة والرؤية الاقتصادية الداخلية لم تكن سليمة ولا صحيحة والنتائج كانت الوصول الى الازمة الحالية الاقتصادية والمالية والمعيشية التي يعيشها لبنان من دون اي رؤية اقتصادية بديلة سوى الكلام التقليدي عن مساعدات للناس وعن بطاقة تموينية وعن قروض من الخارج لم تشكل حلا لجوهر الازمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان .
العميد مروان شربل، وزير الداخلية والبلديات الاسبق ، عميد متقاعد
من اهم ما يمكن من خلاله تقييم مستوى اقتصاد ما : هو مدى جودة وتطبيق القوانين والدساتير العائدة لهذا الاقتصاد . اذ من الصعوبة الاستثمار وتحقيق التنمية والنمو الاقتصادي من دون آلية ترسم الطريق الصحيح لذلك .
لقد بينت التجارب ان العقد الاجتماعي بين اللبنانيين المبني على الدستور ، لم يرتكز على اسس ثابتة وقوية وعلى قناعات موحدة وارادة اكيدة في بناء وطن لكل ابنائه . فبات الزعيم هو المرجع الصالح للدستور والقانون ، فبدأت الخصومة وازدادت الانقسامات والاختلافات فاهتز الاستقرار السياسي وبالتالي الاستقرار الاقتصادي والمالي.
إن المشكلة الرئيسية برأينا والتي لا يتجرأ كثيرون على قولها او تسليط الضوء عليها هي ان لبنان ساحة صراع للحضارات والثقافات المتعددة conflits de civilisation et de culture . ويذهب اخرون الى صراع طوائف وديانات conflits de confessions et de religions ويقول البعض ان هناك صراع أنبياء conflits des prophetes .
في ضوء هذا الواقع يعزى تشرذم اللبنانيين الى هذا التفاوت في المفاهيم والثقافات والولاءات والانتماءات مما ينعكس سلباً على الإستقرار السياسي الذي هو العمود الاساسي للإستقرار الاقتصادي والاجتماعي .
ففي سنة 1943 عشية استقلال لبنان وفي خضم الخلافات بين مكونات البلد منهم من يطالب الالتحاق بدول الجوار واعلان الانضواء تحت عباءة الامير فيصل والجماعة العربية ومنهم من يرفض الخروج من حضن الغرب حتى انتهى التفاهم على مطلب واحد يجمع المطلبين :” لا شرق ولا غرب ” فولد الميثاق الوطني الذي عرف بصيغة 43 .
حافظت هذه الصيغة على استقرار سياسي معقول ، رغم تعرضها لصدمات وإهتزازات متكررة. إلا أنها بقيت صامدة لم يخرق الدستور في حينه رغم بعض التعديلات التي حصلت فعرف الوطن بحبوحة وازدهار حتى انه لقب بسويسرا الشرق .
العلاقة بين السياسة والاقتصاد كالعلاقة بين العقل والجسم . كل يؤثر ويتأثر بالاخر . فلنترك العقل يتفاهم مع الجسم ونركز على العلاقة الوثيقة بين السياسة والاقتصاد . هذه العلاقة تولد الثقة والثقة تولد الامن والامن يولد الاستثمار والاستثمار يولد الاقتصاد. حين اهتزت صيغة 1943 بفعل احداث 1975 التي كان سببها اتفاق القاهرة سقط الاستقرار السياسي فتعالت المتاريس وظهرت الولاءات والانتماءات الى الاحزاب وطوائفها فسقط الاقتصاد وانهارت مداميك الدولة .
لم تنجح مدينة الطائف في وضع حد للخلافات والانقسامات بل العكس زاد التباعد بين اللبنانيين وقد اصبح لكل طائفة دولتها فهلك الاقتصاد وهربت رؤوس الاموال .
واليوم نحن محتارين ونتساءل من يحكم الاستقرار اللبناني اتفاق الطائف ام اتفاق الدوحة والى اي اقتصاد نلجأ ؟ اقتصاد الطائف ام اقتصاد الدوحة ؟
الدكتور عارف العبد . صحافي، استاذ جامعي وباحث ومؤلف، خبير بالاعلام والتواصل، مستشار للرئيس فؤاد السنيورة
لقد شكل غياب الرؤية الاقتصادية عاملا مؤثرا في احداث التفاوت والتباين الاجتماعي والاختلال الاقتصادي وبالتالي التأثير على الاستقرار السياسي والمؤسساتي وهذا ما دفع مثلا العهد الشهابي( فترة ولاية الرئيس فؤاد شهاب) للاستنجاد ببعثة ايرفد للقيام بدراسات ميدانية والانتهاء لوضع رؤية اصلاح اقتصادي نفذ منها بعض الخطوات الخجولة ولم تنفذ كل الإصلاحات مما مهد الطريق للاختلال الاقتصادي وبالتالي الاجتماعي والسياسي.
مشكلة لبنان مع الاصلاحات الاقتصادية استمرت حتى انفجرت الحرب الاهلية عام 1975 والتي فاقمها الوجود الفلسطيني المسلح والتداخل الإقليمي مع القضايا الداخلية فأنتجت اختلالا اقتصاديا وسياسيا ومؤسساتيا.
محاولات الإصلاح الاقتصادي استمرت بعد إقرار وتطبيق الطائف لكن وجود لبنان على خط التماس الإقليمي أعاد مفاقمة الأوضاع السياسية وبالتالي النزاعات مما انعكس توترا عطل إمكانية النجاح بأية خطوات إصلاحية على المستوى الاقتصادي.
ففشل لبنان بتطبيق الإصلاحات التي اقرت في مؤتمرات باريس واحد، وباريس 2 وباريس 3، وكانت الدول المانحة التي استنجد بها لبنان قد اوفت بالتزاماتها تجاه بلدنا فقدمت المساعدات التي وعدت بها لكن لبنان عجز عن تنفيذ الاصلاحات التي تعهد بها. فانعكس الامر فشلاً وتراجعاً اقتصادياً وتمثل بانعدام النمو وتراجعه الى مستويات سلبية. وبالتالي انعكس الامر انهياراً اقتصادياً وسياسياً بقي مستمرا حتى وقتنا هذا.
في المحصلة إذا لم يعد لبنان الى طريق الإصلاح الاقتصادي
والمؤسساتي لن يقوى على الاستقرار وقد يصل الى الانهيار الشامل الذي يقف على الأبواب بكل تداعياته، السياسية والدستورية والمعيشية .
الاستاذ قاسم قصير، صحافي لبناني وكاتب سياسي. متخصص بالحركات الاسلامية
تركت المتغيرات الإقليمية والدولية تأثيراً مهما على دور وموقع لبنان الاقتصادي والسياسي وخصوصا في السنوات العشرين الأخيرة ، فبعد أن كان لبنان مركزاً مالياً واقتصادياً وسياحياً مهماً، وممراً على الدول العربية أدت التطورات في المنطقة إلى تراجع هذا الدور وأخذت عواصم ومدن عربية مكان بيروت اعلامياً ومالياً كدبي مثلاً وأصبح لكل دولة أعلامها وكما إستقطبت اسطنبول السياحة العربية وتحولت إلى مركز استقطاب للمؤسسات العربية وتحولت قطر إلى دولة إعلامية وثقافية، وادى الربيع العربي وصراع المحاور إلى تخلي الدول العربية عن لبنان وخصوصاً الراعية لاتفاق الطائف وفي مقدمتها السعودية، إضافة إلى أن اغتيال الرئيس رفيق الحريري أدى إلى خروج سوريا من لبنان ونهاية دورها كراعية للاتفاق ومتابعة لتنفيذه ولو بشكل مشوه احياناً.
كل هذه التطورات انعكست على تطبيق اتفاق الطائف وإستكمال البنود الإصلاحية وإزدياد الصراعات السياسية الداخلية حول من يدير البلاد ومن له الحق في الصلاحيات، كل هذه التطورات كشفت الخلل الكبير في الاتفاق وعدم وجود مركزية في إدارة البلاد، وبرزت المطالب بإعادة النظر به أو تعديله أو طرح مشاريع جديدة قديمة كالفيدرالية أو الحياد.
وجاءت التطورات الأخيرة بعد ١٧ تشرين الأول عام ٢٠١٩ لتكشف الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية ونهاية دور لبنان القديم ماليا وسياحيا وعقاريا وهذا يتطلب إعادة النظر بكل دور لبنان واقتصاده مما قد يستدعي رؤية سياسية ودستورية جديدة وخصوصا في ظل الخلافات على القضايا الكبرى كدور لبنان في المنطقة والاستراتيجية الدفاعية ومستقبل النظام.
اذن الوضع الان مكشوف ونحن في أزمة ومن غير الواضح اذا كان الاتفاق لا يزال هو الحل للأزمة اليوم . ما نحتاج إليه اليوم إعادة تعريف دور لبنان في المنطقة وما هي التحديات التي يواجهها اقليميا وداخليا . طبعا الكيان اللبناني أو لبنان الوطن أصبح حقيقة واقعة داخليا أو خارجيا لكن لا يمكنه لوحده مواجهة التحديات المختلفة وهو لذلك ينبغي أن يكون من ضمن مشروع إقليمي تكاملي وهذا يتطلب رؤية جديدة على دوره وموقعه.
كما أن العلاقات بين المكونات اللبنانية تتطلب مقاربات جديده على ضوء التحديات المختلفة.
الدكتور مشير باسيل عون، كاتب ومفكر فلسفي لبناني، استاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية
يخضع كلُّ متّحد وطنيّ لعواملَ شتّى من التأثير، أبرزُها طبيعة الاجتماع الإنسانيّ، وتصوّرات الثقافة السائدة، وبنى الإنتاج الاقتصاديّ. لا ريب في أنّ تفاعل هذه العوامل يطبع بطابعه الخاصّ النظامَ السياسيَّ برمّته. حين يعاين المرءُ مآلات الرؤية الاقتصاديّة في لبنان، لا يسعه إلّا أن يتحسّر على الانحرافات الخطيرة التي انتابت القوى اللبنانيّة الإنتاجيّة. غير أنّ الاقتصار على تجريم الإخفاق الاقتصاديّ لا يسوّغ التغاضي عن عاملَي الاجتماع والثقافة. صحيحٌ أنّ الاقتصاد اللبنانيّ بُني على أسُس خِدمويّة مصرفيّة وتربويّة وسياحيّة واستشفائيّة، وما يشاكلها. فأهمل اللبنانيّون استثمار طاقاتهم الزراعيّة وإمكاناتهم الصناعيّة، ولاسيّما في المجالات العلميّة الطليعيّة التي تلائم نبوغ العقول اللبنانيّة الشابّة كالبرمجات الإلكترونيّة المتطوّرة، والمختبرات الدوائيّة، والصناعات الابتكاريّة الرائدة التي لا تثقّل على المجال الحيويّ اللبنانيّ الضيّق، ولا تلوّث البيئة اللبنانيّة الغنّاء. بيد أنّ العجز الاقتصاديّ المتمادي هذا ناجمٌ عن صراع ناشب في صميم البنية الاجتماعيّة والثقافيّة اللبنانيّة.
في عرفي أنّ الحقيقة السياسيّة تتجلّى بكثافتها الوازنة المطلقة في الاجتماع والثقافة، وتتأثّر بعض التأثّر بالاقتصاد. ما أخطأ الماركسيّون في إبراز شأن الاقتصاديّات. ولكنّي أرى أنّها ليست العامل الحاسم في بناء الوعي الفرديّ والجماعيّ. الواقع أنّ الاقتصاديّات خاضعةٌ في لبنان للثقافيّات التي ما برحت مجبولةً عندنا بالتعدّديّة الجماعيّة التزاحميّة الصراعيّة، وخاضعةٌ أيضًا للاجتماعيّات التي ما انفكّت ممهورةً في أوساطنا بالمسلكيّة الساميّة المشرقيّة العربيّة اللبنانيّة. دليلي على ذلك أنّ اللبنانيّين، وحالهم حالُ التشرذم الجسيم هذا، لن يستطيعوا أن يبنوا وطنًا يليق بكرامة الإنسان ويزدهروا ازدهارًا اقتصاديًّا مرموقًا حتّى لو انفجرت آبارُهم نفطًا، وفاضت أراضيهم ذهبًا، واكتنزت سهولهم منًّا وسلوًى! ليست البحبوحة الاقتصاديّة التي نعم بها اللبنانيّون في الخمسينيّات والستّينيّات هي التي أنقذتهم من براثن الاقتتال، بل الحكمةُ العربيّة التي ارتضت على مضض بالحياد اللبنانيّ، والرعايةُ الدوليّة التي عاينت مصالحها آنذاك في الاستقرار اللبنانيّ، وانتظامُ الحياة السياسيّة اللبنانيّة على قاعدة الرأس الواحد والفصل بين السلطات وعصمة القضاء. على الرغم من الازدهار الماليّ والسياحيّ، ظلّ لبنان مع ذلك عرضةً لانتكاسات التباينات الإيديولوجيّة القوميّة والاشتراكيّة والدِّينيّة التي كانت تعصف به بين الحين والحين، حتّى أجهزت عليه في منتصف السبعينيّات.
ومن ثمّ، ينبغي لنا الاتّضاع والاعتراف بأنّ أزمة لبنان هي في صميم بنيته الاجتماعيّة الثقافيّة، لا في ضلالاته الاقتصاديّة وعقمه الإنتاجيّ. السياسة أوّلًا، ومن ثمّ الاقتصاد! وعلاوةً على ذلك، إذا نظر المرء في طبيعة الاقتصاديّات اللبنانيّة، ولاسيّما بعد الحرب اللبنانيّة، تبيّن له أنّها اقتصاديّاتُ العبوديّة الظلماء التي تحصر طاقات الإنتاج وقواه في فئةٍ من الزعماء السياسيّين الطائفيّين الذين يبتدعون ضروبًا من النشاط الاقتصاديّ تجعلهم يستعبدون الناس في مصانعهم ومعاملهم ومعارضهم ومحلّاتهم. اقتصاديّات العبوديّة هذه تحتكر كلَّ مشاريع الإنتاج التي ينبغي أن تخضع لضريبة الزعيم السياسيّ المهيمن في القضاء أو في المحافظة. ولكلّ قضاء لبنانيّ أسيادُه الذين يتصارعون ويتشاتمون ويتناحرون في النهار، ويتآمرون على الناس في الليل، وهم في أشدّ ضروب المنادمة سكرًا وانتشاءً. تدلّ هذه الوقائع على أنّ الاقتصاد لا يؤثّر في صوغ الدستور ولا في تطبيقه ولا في تعديله. ليس الاقتصاد قادرًا على حلّ أزمات المعيّة اللبنانيّة المتعثّرة، ومعالجة ثغرات النظام السياسيّ اللبنانيّ المشلول. وكذلك ليس تأليفُ حكومةٍ من هنا وحكومةٍ من هناك بقادرٍ على إنقاذ اللبنانيّين من محنتهم الوجوديّة العظمى. وحده التبصّر في جوهر التعدّديّة اللبنانيّة، وصونها وحمايتها وتقويتها بنظام دِموقراطيّ حضاريّ منفتح، يمكّن اللبنانيّين من ترميم الخراب الأخلاقيّ الذي تراكم على وعيهم الداخليّ، فأغشى على بصرهم، ولفَّ حواضرَهم ومدنَهم بليل بهيم.