الملف العربي الصينيملفات مرجعية

خمسون لبنان والصين “الجزء الثالث والأربعون” : أهمية تطوير العلاقة من التبادل التجاري الى الشراكة الإقتصادية | كتب عباس رمضان

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

ملح العلاقات بين الدول واساسها هي المصالح المشتركة وخاصة الإقتصادية منها والتي تحكم عالمنا اليوم وهي غالبا ما تتقدم على السياسة لا بل تسخر السياسة لخدمتدها. وإن كان لبنان واحد من الدول الأكثر انفتاحا وسباقا لبناء العلاقات الإيجابية مع الدول الشقيقة والصديقة فقد بدأت العلاقات اللبنانية – الصينية في العام 1955 حيث تم توقيع أول اتفاقية تجارية بين لبنان والصين وهو حينها خرق عزلة الصين وفتح لها ابواب الشرق الأدنى والأوسط ومن ثم جاءت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في العام 1971، بعد أن استعادت الصين مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة. وقد شهدت العلاقات التجارية بين لبنان والصين تطوراً كبيراً، فأصبحت الصين أكبر مورد تجاري للبنان، إذ بلغت قيمة الصادرات الصينية إلى لبنان عام 2018 نحو 2.1 مليار دولار (أي ما يمثل نحو 10 % من إجمالي الواردات)، بينما بلغت قيمة الصادرات اللبنانية إلى الصين حوالي 22 مليون دولار فقط (0.11 % من إجمالي الصادرات) اي ان بعد مرور كل هذه السنوات لم تستطع العلاقة بين البلدين ان ترتقي الى الشراكة التجارية حيث أنه من الواضح ان كفة الميزان التجاري تميل بكاملها بتجاه الصين وتبدو العلاقة التجارية من طرف واحد تقريبا لذا فان لم نستطع أن نبني شراكة تجارية هل يمكن أن نبني شراكة إقتصادية ؟ وإن كان لبنان يحتاج الى الصين فهل الصين تحتاج الى لبنان؟ بكل تأكيد نعم.!

تُعَدُّ التجربة الصينية من النماذج الدولية المميزة والفريدة من نوعها، وذلك بفضل المعجزة الاقتصادية التي تم تحقيقها في وقت قصير، حيث نجح الاقتصاد الصيني في أن يصبح ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد  اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية بناتج محلي إجمالي بلغ حوالي 14.7 تريليون دولار أمريكي في عام 2020 وفقًا لإحصائيات البنك الدولي، كما تُعَدُّ الصين أسرع اقتصاد نامٍ خلال الثلاثين سنة الماضية بمعدل نمو سنوي تخطى 13% ولكنه تقلص خلال السنتين الأخيرتين ليبلغ حوالي 7.3% مع تكهنات باستمرار التراجع في النمو خلال السنوات القادمة.

  لا شك أن الصين مرت بالعديد من المراحل الشاقة لتتمكن من التحول من الاقتصاد المخطط أو المركزي الذي لم ينجح في تحقيق أهداف التنمية المرجوة إلى اقتصاد السوق القائم على المنافسة شبه العادلة، حيث ساعدت سياسة اللامركزية على رفع معدلات النمو الاقتصادي بفضل حصول حكومات المناطق المحلية على حق الحكم الذاتي بالإضافة إلى تعاظم دور القطاع الخاص ومساهمته في الحياة الاقتصادية. و يتم تصنيف الصين حاليا ضمن الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل وفقًا للبنك الدولي، حيث بلغ نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي في عام 2020 حوالي 10484دولار أمريكي، ولا تُذكَر الصين دون الإشارة إلى كونها أكبر دولة على مستوى العالم من حيث التعداد السكاني، والذي بلغ 1.4 بليون نسمة ينتمون إلى ست وخمسين قومية عرقية مختلفة، بمعدل بطالة  5.1% وذلك في عام 2021.

وقد حقق  الاقتصاد الصيني أرقاماً وطفرات كبرى، فهو ثاني أكبر اقتصاد على مستوى العالم، وأول احتياطي من العملات الأجنبية في العالم، وأول معدل نمو في الناتج المحلي الإجمالي في السنوات الخمس الماضية، وصاحب أكبر صادرات من البضائع عالمياً، ويمكن ملاحظة أن الصعود الاقتصادي الصيني لافت للنظر، بل إنه تسبب في إثارة اهتمام الدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة.ولا يمكن فصل النمو السريع للصين عن سياسة الإصلاح والانفتاح، ولا عن الترابط والتأثير المتبادل بين الصين والسوق العالمية، فعلى مدار 40 عامًا، التزمت الصين دائمًا بالسياسة الأساسية للانفتاح على العالم الخارجي والاندماج بفعالية في عملية التنمية للعولمة الاقتصادية.

وبسبب تزايد العولمة الاقتصادية، تعمل الصين بنشاط على تعزيز تنمية التجارة والاستثمار الثنائية والمتعددة الأطراف، ويتضح للجميع، أن التطور السريع للتجارة الخارجية الصينية قد ساهم بشكل متزايد في ازدهار السوق الدولية والتجارة الدولية، خاصة بعد الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في عام 2008، التي تسببت في انكماش الاقتصاد العالمي، حيث كان معدل نمو التجارة العالمية عند مستوى منخفض لفترة طويلة. وحينها ساهم النمو المستقر نسبياً لتجارة الواردات والصادرات الصينية كثيراً في النمو المطرد للتجارة العالمية.

 ولا يخفى على أحد أن السياسة الصينية في السنوات الأخيرة تدعو إلى الالتزام بالمنفعة المتبادلة والمكسب المشترك، فمن ناحية، عملت الصين باستمرار على تحسين مستوى انفتاحها على العالم الخارجي، ونفذت بنشاط بناء مناطق التجارة الحرة والتفاوض بشأنها، وعززت تنمية التجارة والاستثمار الثنائي والمتعدد الأطراف. ومن ناحية أخرى، قدمت الصين “مبادرة الحزام والطريق” في الوقت المناسب.هي مبادرة صينية قامت على أنقاض طريق الحرير في القرن التاسع عشر من أجل ربط الصين بالعالم، لتكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية واكبر عملية ربط وتشبيك اقتصادي بين عدد من الدول إن حدث مبني على فكرة مبتكرة وذكية نابعة من الثقافة الصينة والتي تضيف البعد الإنساني والثقافي والتاريخي.الى البعد التجاري والربحي والمصالح المشتركة التي تجتمع الدول عادة عليها.

إذ يعتبر التعاون الدولي من خلال مبادرة “الحزام والطريق” برنامجاً يفضي إلى المعاصرة والربح المتبادل بين جميع الأطراف، ويتفق مقترح “الحزام والطريق” ويتلاءم مع الطموحات المشتركة للتنمية السلمية لجميع البلدان في العالم والاتجاه العام للتنمية في عالم اليوم، ويقترح خطة صينية لحل مشاكل عالم اليوم، ما يبرهن بشكل كامل على مشاعر العالم التي تهم مستقبل البشرية، وتجسد المبادرة بالكامل المسؤولية التاريخية عن تقديم مساهمات جديدة وأكبر للبشرية.

تتضمن المبادرة عدة محاور  تتخلها الأهداف التي تسعى المبادرة إلى تحقيقها وهي:

المحور التّجاري

– المحافظة على أسواق التّصدير.

– فتح أسواق تصدير جديدة.

– ترسيخ مكانة الصّين تجارياً بشكل مستدام حيث ارتفعت صادراتها إلى الدّول التي تقع ضمن المسارين

المحور النقدي

– زيادة التّبادل التّجاري بالعملة الصّينيّة.

– تقليل تكلفة التّبادل التّجاري.

– تقليل وقت التّسويّة (قياساً بالتّعامل باليورو أو بالدولار).

– تقليل مخاطر تقلبات أسعار الصّرف بالنّسبة لشركاتها.

المحور الجيوسياسي

إحياء طرق التّجارة القديمة البريّة والبحريّة، والجدير بالذكر إن المسارات تستهدف كتلة بشريّة هائلة، والغريب في الأمر أنّ المسارين البري والبحري تلافيا إلى حد كبير المرور بمدن وموانئ عربيّة، وعلى الرّغم من مرور المسار البحري من (قناة السويس والبحر الأحمر)، إلا أنّ المسار لا  يقف عند أي من الموانئ الخليجيّة العربيّة.

في الوقت الحالي، تدعم أكثر من 100 دولة ومنظمة دولية حول العالم وتشارك بشكل فعال في بناء “الحزام والطريق”، كما تم الاعتراف بشكل كامل بـمبادرة “الحزام والطريق” في قرارات مهمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وأصبحت “مبادرة الحزام والطريق” التي تضم “البناء المشترك والمشاركة” مكملاً هاماً لآلية التنمية الاقتصادية الدولية الحالية. ولا شك في أن بناء “الحزام والطريق” هو وضع مربح لجميع الأطراف المشاركة، وسوف يرسي أساسا هاما للنمو المستدام للاقتصاد العالمي.

ضمن هذا الإطار، تنظر الصين إلى لبنان كشريك مهم في مبادرة «الحزام والطريق»، والتي تقوم على مبادئ التطوير التعاوني للبرنامج من خلال الإستشارات والتشاور مع جميع أصحاب المصلحة، وبحسب النصوص المشتركة لاتفاقيات التعاون الصيني – اللبناني، “سوف تُستخدم آليات التعاون الثنائية والمتعددة الأطراف القائمة، لتعزيز التكامل بين الاستراتيجيات الإنمائية للدول، كما سيتم إتخاذ تدابير وخطوات للتشجيع على توقيع مذكرات تفاهم وخطط تعاون بهدف إنشاء عدد من المشاريع الإنمائية الثنائية، وبذل الجهود لإنشاء آلية عمل مشتركة سليمة، ووضع خطة تنفيذ وخارطة عمل من أجل تطوير إستراتيجية الحزام والطريق، ومن المرتقب ليس فقط وضع لبنان على خريطة طريق الحرير، لا بل شق هذه الطريق عبر لبنان للإستفادة من موقعه الإستراتيجي.

من هنا يطرح السؤال ماذا يمكن أن يقدم لبنان لصين ؟

إن قدرة الدول لا تقاسم بمساحتها الجغرافية أو تعداد سكانها بل بإمكانياتها وميزاتها التفاضلية وقدراتها التنافسية وحاجة الدول الأخرى لهذه الميزات من هنا فإن لبنان بموقعه الجغرافي الإستراتيجي يستطيع أن يكون موطئ تواجد الصين على سواحل البحر المتوسط ونقطة إنطلاق لمنتجاتها نحو الشرق الأوسط وأوروبا احد محطات الوصل الرئيسية لمشروع ” الحزام والطريق” كما أن العنصر البشري اللبناني والقدرات الكفؤة القادرة على مد الشركات الصينة بالعمالة المدربة اللازمة لإنشاء مراكز رئسية في لبنان ليكون مركزا لتصنيع منتجاتها وتصدرها نحو دول الشرق الأوسط وأفريقيا مستفيدة من الإعفاءات الضريبية التي توفرها الحكومة اللبنانية للإستثمارات الأجنبية والتي تصل الى 10 سنوات بالإضافة الى كافة الإعفاءات والتسهيلات الإدارية يضاف الى ذلك فإن هذه المنتجات معفاة من الرسوم الجمركية عند دخولها كافة الأسواق العربية وبعض الأسواق الأفريقية والأوروبية نتجية الإتفاقيات التي أبرمتها الحكومة اللبنانية مع هذه الدول.

أما لبنان فيستطيع أن يستفيد من الجانب الصيني على عدة مستويات أهمها:

– إعادة بناء البنية التحتية المتهالكة خاصة في ظل الأزمة الإقتصادية والمالية الحالية حيثقدرات الدولة التمولية باتت أكثر من محدودة.

– المساعدة في في تطوير القطاع الصناعي خاصة ونحن في خضم مرحلة تحول الإقصاد اللبناني من الإقتصاد الريعي الى الإقتصاد الإنتاجي ونقل الخبرات الى الصناعيين اللبنانيين.

– نقل المعرفة على مستوى الصناعات التكنولوجية و إنشاء شراكة بين الشركات المحلية والصينية خاصة وأن هذا القطاع حقق نموا متطورا كبيرا في لبنان خلال السنوات السابقة.

– إنشاء برامج مشتركة لدعم الشركة الناشئة والصغيرة خاصة في قطاع المعلوماتية والتكنولوجية.

– تطوير المرافئ البحرية خاصة مرفئي طرابس وبيروت بما يخدم إحياجات لبنان والصين معا.

– إطلاق مشاريع انشائية تنموية مثل المنطقة الإقتصادية في طرابلس ومناطق اقتصادية أخرى قادرة على تحريك عجلة الإقتصاد في ظل الإزمة الإقتصادية الحالية.

إن ما يمكن أن يكون بين الصين ولبنان أبعد بكثير من أحصاءات التبادل التجاري السنوية مهما كبرت ومهما تعدلت كفة الميزان التجاري، لا بل هو شراكة إقتصادية حقيقية قادرة على توليد مشاريع مربحة للجانبين وتحقيق أهداف تنموية وإقتصادية مفيدة للدوليتين إذا ما تم تنفيذها بنجاح ودقة. غير أن ذلك كله مرهون بإرادة الجهات المسؤلة في كلتا الدولتين مع ضرورة التأكيد على أن شراكة لبنان الإقتصادية مع الصين لا يجب أن تمنعه من الشراكة الإقتصادية مع دول أخرى ضمن إطار برنامج عمل واضح كما أن شراكة لبنان  الإقتصادية مع الصين هي لتحقيق مصالح إقتصادية بحتة وليست لتسجيل موافق ضد أي دولة أخرى.


لمتابعة باقي أجزاء السلسلة : اضغط هنا

عباس رمضان،خبير اقتصادي، مستشار المؤسسة العامة لتشجيع الإستثمارات في لبنان

عباس رمضان، مستشار المؤسسة العامة لتشجيع الإستثمارات في لبنان "ايدال". يعمل منذ تسعة عشر عاماً لدى برنامج الأمم المتحدة للتنمية UNDP وهو حالياً ضابط استثمار اول لدى البرنامج. عمل محلل أبحاث لدى مؤسسة فيبر في كندا وحائز على ماجيستير في العلوم الاقتصادية من جامعة مونتريال الكندية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى