
تمثل الجالية العربية في أوروبا مكونًا أساسيًا من النسيج الاجتماعي والثقافي للقارة، إلا أن حضورها السياسي لا يرقى إلى مستوى وزنها الديموغرافي والثقافي. تعاني هذه الجالية من ظاهرة مركبة تُعرف بـ”الاغتراب السياسي”، وهو ليس مجرد غياب عن صناديق الاقتراع أو العمل الحزبي، بل هو شعور أعمق بالانفصال والعزلة عن المجال السياسي، سواء في الدول الأوروبية التي تحتضنهم أو في أوطانهم الأصلية التي تركوها خلفهم. هذا الاغتراب يمتد إلى الجوانب النفسية والثقافية، إذ يعيش العربي في أوروبا بين ثقافتين، دون أن يشعر بانتماء كامل لأي منهما، مما يعمق الشعور بفقدان التأثير والهوية والجدوى السياسية.
تتعدد أسباب هذا الاغتراب، ويمكن تتبعها في ثلاثة مستويات متداخلة: أولها يرتبط بالتحديات البنيوية في الدول الأوروبية، كصعوبة الحصول على الجنسية في بعض الحالات، وما يترتب عليه من حرمان من الحقوق السياسية، إضافة إلى حواجز اللغة والثقافة التي تعيق الفهم العميق للأنظمة السياسية. كما يشكّل التمييز والعنصرية عائقًا إضافيًا، حيث غالبًا ما يُقصى العرب من الأحزاب والمؤسسات السياسية، أو يُنظر إليهم كغرباء. ثانيها، الانقسامات الداخلية للجالية نفسها، نتيجة تنوع خلفياتها السياسية والطائفية، مما يؤدي إلى غياب الصوت الموحد وتشتيت الجهود بين قضايا الوطن الأم وقضايا الاندماج. أما المستوى الثالث، فيتعلق بسياسات الدول العربية الأصلية، التي تمارس أشكالًا من الضبط والسيطرة على مغتربيها، سواء عبر تقييد مشاركتهم السياسية، أو فرض الولاء كشرط لممارسة الحقوق، ما يزيد من تفكك العلاقة بينهم وبين المجال العام.
البعد النفسي للاغتراب السياسي
لا يقتصر الاغتراب السياسي على العوامل الظاهرة، بل يتغلغل في البناء النفسي للفرد. يشعر كثير من العرب في أوروبا بالعجز أمام الأنظمة السياسية، سواء في بلدانهم الأصلية التي تركوا فيها تجارب من القمع أو الفساد، أو في المجتمعات الأوروبية التي لا تمنحهم الاعتراف الكامل. ويؤدي هذا الإحساس بالعجز إلى فقدان الحافز والاعتقاد بعدم جدوى المشاركة السياسية. كما يعاني الكثيرون من صراع الهوية، حيث يجدون أنفسهم عالقين بين الانتماء لوطن غادرهم، وواقع جديد لا يحتضنهم بالكامل، فتتكون لديهم حالة من “الاغتراب الوجودي” تجعلهم غير منتمين لأي نظام سياسي فعلي.
من ناحية أخرى، تتولد لدى بعضهم حالة من “اللامعيارية”، أي الشك العميق في شرعية أي نظام سياسي، وهي حالة تغذيها تجارب سابقة من القمع والاستبداد، وتعززها مشاهد العنصرية في المجتمعات الجديدة. هذا التراكم النفسي يدفع البعض إلى الانسحاب من المجال العام، بينما قد ينجرف آخرون نحو مواقف متطرفة بحثًا عن هوية واضحة تعوض التهميش. وفي حالات أخرى، قد يُظهر الفرد اندماجًا سطحيًا في الخطاب السياسي الأوروبي فقط للحصول على القبول الاجتماعي، دون اقتناع حقيقي أو مشاركة فاعلة. وبين هؤلاء جميعًا، يظل الحنين إلى الماضي، إلى الوطن الأم، حاضرًا كآلية دفاعية للهروب من شعور الاغتراب اليومي.
نحو مشاركة سياسية فاعلة
لمعالجة هذه الظاهرة المركبة، لا بد من تبني مقاربة شاملة تأخذ في الاعتبار البعد القانوني، السياسي، النفسي والثقافي. فعلى الدول الأوروبية أن تسهّل إجراءات التجنيس، وتكافح التمييز، وتفتح المجال أمام العرب للمشاركة في الحياة السياسية، لا كضيوف، بل كمواطنين متساوين في الحقوق. كما يجب أن تُبنى مؤسسات تمثيلية قوية تعبّر عن صوت الجالية، وتوحّد جهودها بعيدًا عن التجاذبات الطائفية أو القُطرية.
في الوقت نفسه، ينبغي العمل على تعزيز الوعي السياسي والقانوني داخل الجالية، وخلق فضاءات للحوار تعالج التجارب السلبية وتحفّز الانخراط الإيجابي. وعلى الحكومات العربية أن تراجع سياساتها تجاه المغتربين، وتمنحهم حقوقًا سياسية فعلية تُمكّنهم من المساهمة في قضايا أوطانهم بدل الاكتفاء بدور المراقب أو الممول. وأخيرًا، فإن إعادة تعريف السياسة بوصفها مجالًا للتعاون والتضامن بدلًا من الهيمنة، قد يكون الخطوة الأولى نحو مصالحة الجالية العربية مع السياسة.
إن الاغتراب السياسي ليس قَدَرًا لا مفر منه، بل نتيجة لمسارات معقدة قابلة للتعديل. وإذا ما تمّت معالجته بجديّة، فقد تتحول الجالية العربية في أوروبا من كتلة صامتة إلى فاعل مؤثر في مجتمعاتها الجديدة، وفي الوقت ذاته، إلى سند حيوي في مسار التنمية والحرية في أوطانها الأصلية.