دولي

العالم بين أحادية الدولار والبراغماتية الصينية | علي مغنيّة

یعتبر النجاح أو الفشل في علم الاقتصاد الجزئي من منظاره الإداري؛ نتیجة حتمية طبیعیة لأي مشروع او خطة او استراتیجیة یتم رسمها او التخطيط لها من قبل المنشأة اوالشركة؛ التي تسعى الى تحقیق أهدافها الذكية ؛وبالتالي تعظیم ربحیتها من مبدأ انتمائها للأیدیولوجیة التي تؤمن بها الإدارة العلیا في رسم مسارات التطوير لدیها.

كذلك الشأن؛ بالنسبة الى الاقتصاد الكلي, الذي تحدد فیه أنظمة الدول وحكوماتها مدى تحقق النجاح أو الفشل لدیها في رسم و تطبیق سیاساتها الاداریة والاقتصادیة والمالیة من خلال التخطيط الاستراتيجي البعيد المدى ؛ الذي بالتالي يضمن تحقیق التطور والرفاهیة لدى شعوبها ومجتمعاتها كما يعزز دورها في مفهوم العولمة.

من هنا تعتبر سنة ١٩٩٠ هي السنة المفصلیة الفارقة في القرن العشرین التي رسمت السیاسة الاقتصادیة للنظام العالمي الجدید الذي قادته الولایات المتحدة الأمریكیة بالتنافس مع الیابان والقارة الأوروبیة بقیادة ألمانیا من منظار استراتيجي اداري وايدلوجي.

حیث اعتبر الباحث ’لستر ثورو’ في كتابه الصراع على القمة, أن المباراة الجدیدة في قیادة العالم خلال القرنین العشرین والواحد والعشرین سوف تكون بین الأقطاب الثلاثة التي ذكرناها سابقا, وخروج بریطانیا العظمى التي قادت العالم مع الولایات المتحدة في القرنين التاسع عشر ومنتصف العشرین بعد الحرب العالمیة الثانیة من حلبة السباق اعطى الفرصة للاتحاد السوفیتي بالصعود الى الحلبة ومشاركة أمریكا والتنافس معها في كافة المجالات والشؤون السیاسیة والاقتصادیة والعسكریة والصناعیة وبالتالي تكوین عالم ثنائي القطبین یتحكم بمقدرات الكرة الارضیة وطاقاتها وشعوبها.

لكن سقوط الاتحاد السوفیتي و ایدولوجیته الشيوعية والاشتراكية في سنة ١٩٩١ بشكل دراماتیكي , مكن الولایات المتحدة من تعزیز دورها التنافسي النابع من الفكر الانجلوساكسوني الذي یؤمن بالنزعة الفردیة وتعظیم الربحیة للافراد على المجموع.
من هذا المنطلق؛ بدأ التنافس الحقیقي بین الغرب والشرق یأخذ بعدا سیاسیا وایدیولوجیا واخلاقیا وبدأت الیابان التي تؤمن بالفكر الامبراطوري الشمولي والجمعي والذي تحدد فیه الأهداف ورسم الاستراتیجیات من منطلق المجموعة على حساب الأفراد بالصعود تدریجیا نحو القمة وتحقیق نجاحات صناعیة وتنافسیة كبرى.

لن استطع هنا التوسع بالأفكار والأحداث وذلك لكثرتها حیث لن یتسع لنا الإسهاب كثیرا في مجرياتها, لكن سوف نقارب الموضوع من الزاویة الإداریة لاستراتیجیة الأعمال؛ ومدى تأثیرهاعلى الاقتصاد الكلي, ولنستطیع ایضا فهم تأثیر العلم الإداري على تحقیق أهداف الدول وبناء مصادر قوتها, من خلال دراسة نموذجین للإدارة وهما النموذج الیاباني والآخر الأمریكي على اعتبار أن الدولتين خاضا صراعا سياسيا وحضاريا وعسكريا ادى الى انتصار الامىريكي وانكفاء الياباني.

بداية؛ تؤمن مؤسسات الأعمال الیابانیة بالحوكمة الاداریة الرشیدة من خلال مفهوم القیادة الجماعية والرؤیة الواعیة في بناء استراتیجیات أعمالها وبالتالي تعتبر الادارة العلیا صانعة القرار ان هیكلیة المؤسسة او الشركة في الیابان هي ركن أساسي لتحقیق الأهداف والأرباح في أن معا لكن الشرط الرئیسي هو تطبیق مفهوم التعاون الجماعي وروح الانتماء للفریق الواحد الراغب في التفوق الامبراطوري لا الفردي.
تنظر الیابان الى الموارد البشریة بعین القداسة حیث نظام الرواتب والأجور المرتفع للموظفين دونما النظر الى مواقعهم الاداریة او الطبقیة هي اهم ما یمیز ادارة الشركات هناك , كذلك التفاهم الإداري والاتصال بين الادارات العليا والوسطى والتنفيذية؛ یعزز التفاعل من اسفل الى اعلى والعكس صحیح مما يؤدي بالتالي الى تحقيق قیمة مضافة وخلق میزة تنافسیة في الانتاج والاداء.

تسعى المدرسة الفكرية اليابانية الى تبني المفاهيم الادارية المشابهة لبناء الجيوش من حيث الدقة في التنظيم وبناء وحدات متناسقة من الموظفين المتدربين المؤهلين للسيطرة الكاملة على الحصة السوقية وتحقيق الارباح على المدى البعيد.

هذا النموذج الیاباني للأعمال استطاع التأثیر على الاقتصاد الكلي المحلي والعالمي؛ من خلال خلق نموذج ’اقتصاد المنتجین’ على العكس من النموذج الأمریكي الذي یرمي إلى تعظیم ربحیة المساهمین لديه عبر الفكر الرأسمالي الحر ؛ والذي یضع من الأولویات أهداف الاستثمار والعوائد المالیة المربحة من خلال وسائل الإنتاج المسخرة للمشروع ؛أكثر مما تعنیه المنفعة الجماعیة والإجتماعیة للاستثمار وأدواته والذي تعتنقه المدرسة الفكریة الیابانیة.

على النقیض من ذلك تهدف الانجلوساكسونیة الى خلق” اقتصاد المستهلكین ” الذي یمكن المساهمین ورواد الأعمال والمستثمرین من بناء نماذج أعمالهم وتطبیق استراتیجیاتهم على قواعد وأسس نظریة وعملیة لا تنظر بفعالیة الى مفاهیم الانتماء والحوكمة الرشیدة والى المقاییس الغیرالمالیة والمعنویة المهمة لمحاكاة القيمة السلوكية البشرية؛ بل تتعامل مع مدخلات الإنتاج والكفاءة بلغة الأرقام البحتة والمعدلات المادیة والمؤية للربح والخسارة.

من منظار الاقتصاد الكلي؛ تعتقد المدرسة الیابانیة بجدوى نظریة التصدیر للخارج لتقویة میزانها التجاري وبالتالي تحقیق نمو اقتصادي مستدام یعتمد على الصادرات أكثر من الواردات وهي تدفع نحو الاكتفاء الذاتي عبر الإنتاج الداخلي والاعتماد على مواردها الذاتیة والتكنولوجیا الإبداعیة لشعبها دونما الاستعانة بالمهاجرین كما في الولایات المتحدة التي قامت ونهضت على مفهوم استقبال المهاجرين والمستثمرین واغراء الأدمغة بالأموال و المحفزات المادیة.

لكن على الرغم من التفوق التكنولوجي الیاباني وقوة الادارة الداخلیة للشركات الیابانیة الا ان خسارة الیابان للحرب العالمیة الثانیة بعد القاءها القنبلة النوویة عليها من قبل الولايات المتحدة الامريكية؛ دفع بالیابان للانكفاء العسكري والسیاسي والتقوقع في بوتقة الداخل والانشغال في اعادة بناء الذات والإنسان للنهوض من جدید.

وبذلك استطاعت الكینزیة الأمریكیة المعتمدة على القوة العسكریة والنمو الاقتصادي المتسارع للدخل القومي الامريكي وبقوة الدولار الاحادیة في التجارة العالمیة ؛ان تتفوق على الیابان في التجارة الخارجیة والصناعات العسكریة والصلبة وأن تتنافس معها في صناعات السیارات؛ حیث تمیزت السیارات الیابانیة بالنوعیة الاقتصادیة قليلة التكلفة عن السيارات الاميركية (جنرال موتورز مقابل تويوتا) على سبيل المثال.

هذا الانكفاء والتراجع الیاباني, دفع بالصین ذات العقیدة البراغماتية الاشتراكیة والتي ادخلت بعض الرأسمالية الى مدرستها الفكرية؛ للصعود الى واجهة التنافس مع الولایات المتحدة في قیادة التجارة العالمیة؛ والتقدم التكنولوجي والنمو الاقتصادي العالمي؛ مما شكل تحدیا جدیدا للمفاهیم الایدلوجیة التي تلعب الآن دورا محوریا في صیاغة مستقبل القرن الواحد والعشرین ؛ الذي تنظر شعوبه الآن بعین الأمل الى الثورة العلمیة الطبیة والمخبرية التي تخلصه من الجائحة المستجدة بمعزل عن التنافس والتفوق العسكري او العلمي.

الدكتور علي احمد مغنية كاتب متخصص باستراتيجية الاعمال

باحث في الشؤون الإدارية واستراتيجيات الاعمال، حائز على بكالورويس ادراة اعمال من جامعة وستمنستر لندن وعلى ماجيستير ادارة اعمال من جامعة ماستريخت الهولندية ودرجة الدكتوراه في ادارة الاعمال من الاكاديمية السويسرية للأعمال. خبير استشاري في شؤون وادارة الشركات والصحة العامة والسياسات الادارية الصحية. مطور عقاري ورجل اعمال في مجال التجهيز الفندقي والضيافة، يعمل بين لبنان والدول العربية وخاصة دول الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى