الاحدثدولي

بايدن يبحث عن أصدقاء… فمن يُصدِقه | بقلم د. عوض سليمية

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

يقول طوني سميث في كتابه “الارتباطات الخارجية: قوة المجموعات العرقية في صنع السياسة الخارجية الأميركية”. من وجهة نظر لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC)، أن تكون صديقًا لاسرائيل يعني ذلك شيئًا بسيطًا للغاية هو “أن إسرائيل نفسها يجب أن تختار شروط وطبيعة علاقاتها مع جيرانها العرب وما على واشنطن إلا أن تصادق على هذه الشروط كما هي وتدعمها.” ضمن هذا المفهوم لمعنى الصداقة من وجهة النظر الأميركية، قال ثعلب السياسة الأميركي العجوز هنري كسينجر ذات يوم: “أن تكون عدوًا لأميركا قد يكون أمرًا خطيرًا، لكن أن تكون صديقًا لها فيمكن أن يكون ذلك مميتًا”.

على وقع البحث عن المصالح الامبريالية الأميركية فإن جميع مفاهيم العم سام قابلة للتغيير والاستدارة بكل سهولة ويسر، فلا المبادئ الليبرالية تصمد ولا القواعد الديموقراطية تدوم، وحتى مفاهيم القيم والاخلاق التي دأبت آلة اعلام أميركا على تصديرها ليل نهار سرعان ما تنهار أمام مصالح ساسة واشنطن، المرتبطين مباشرة بلوبيات الضغط وتأثيراتهم القوية على مجمل القرارات ذات التفضيلات الخاصة لهذه الجماعات بما فيها لوبي اسرائيل في واشنطن، فالتقارب بين الصين وروسيا مثلًا يعتبر في عُرف واشنطن تهديدًا للامن العالمي، بينما حلف الناتو صاحب التاريخ الحافل بالجرائم الممتدة من بلغراد الى كابول وبغداد وطرابلس وصنعاء ودمشق… هو حلف دفاعي.

وعندما يتعلق الامر بتضارب مصالح أميركا أو انقضائها، فإن قرار نفض اليد من النظام المُصنف كصديق او حليف استراتيجي لواشنطن سرعان ما يُوقع، فقائمة التخلي عن الحلفاء تتزاحم على صفحات واشنطن، نذكر منها على الاقل في عهد الرئيس بايدن، فما زال مشهد الانسحاب الأميركي المذل من افغانستان الحدث الابرز، وكيف غادر صديق واشنطن الرئيس الافغاني اشرف غني وحكومته الموالية لواشنطن عاصمتهم دون بواكي. بالمقابل، وفي السياق التقليدي لسياسة طعن اقرب الحلفاء، أقدمت كانبرا /استراليا وتحت ضغط كبير من واشنطن على الغاء صفقة الغواصات التقليدية مع باريس، واستبدالها بغواصات نووية سيتم تصنيعها في شركات أميركية، دون ان تلتفت الاخيرة الى مستوى الصداقة والتحالف مع فرنسا أو حتى النظر في الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الغاء مثل هذا النوع من الصفقات الضخمة.

وكان حريٌ بكامبيرا ان تتذكر الطعنة التي تلقتها من الولايات المتحدة في مايو من العام 2020، عندما وفرت الشركات الأميركية البديل وباثمان اقل لبكين، بعد توقف الاخيرة عن شراء الشعير الأسترالي رغم أنه من المفترض أن تكون أستراليا حليفًا لأميركا. علمًا ان احد اسباب الخلاف الذي نشب بين كانبيرا وبكين هو تبني كانبيرا لرواية ترامب بان مصدر كورونا هو الصين.

هذه المشاهد كان من المفترض ان لا تغيب عن ذاكرة دمية واشنطن في كييف وحاشيته التي غامرت بالبلاد وبمقدراتها، واعلنت صراحةً تهديدها المباشر للامن القومي لدولة عظمى بحجم روسيا الاتحادية، من اجل وعودات أقصاها قبول اعلان خِطبة بروكسل لكييف تمهيدًا للزواج من الناتو، وفقًا لتصريحات زيلينسكي، الذي طار فرحًا بعد اعلان اوروبا نيتها إعادة النظر في طلب اسلافه المقدم منذ العام 2014 للانضمام الى اوروبا. وإلى ان يحين موعد دراسة طلب الصديق الأميركي الجديد زيلينسكي، يكون الجيش الروسي قد اتم مهامه العسكرية واخرج على اقل تقدير الشطر الشرقي والجنوبي الغربي بكامله من حسابات أصدقاء واشنطن، وستغيب اوكرانيا بشكلها المعروف ما قبل العالم 2014 نهائيًا عن الخارطة الجيوسياسية، وهو تطبيق فعلي لما أشار اليه كيسنجر صراحةً “ان تكون صديقًا لأميركا، يعني ان تموت”. وما يجري في اوكرانيا اليوم هو مثال لاخذ العبرة من قبل ساسة تايوان وما يمكن ان يحدث لهم اذا ما صدقوا وعودات أميركا بالدفاع عنهم في حال اعلنت الاستقلال عن البر الصيني من جانب واحد.

فالصديق الوفي لواشنطن وفقًا لنسختها الملتوية في تصنيف دول العالم وانظمتها، هو ببساطة من يقبل تدمير بلاده من اجل المصالح الأميركية، على الاقل تحويل مقدرات وثروات بلاده خاصة النفط والغاز لتدفئة ابناء العم سام وإدارة محركات اساطيلهم الحربية وطائراتهم المتخصصة في القاء أطنان الورود على شعوب الارض من اجل نشر الديموقراطية، و/أو ان يقبل بتحويل اجمالي الناتج المحلي لبلاده (صناعةً وتجارةً ونقدًا واصولًا) الى بنوك واسواق أميركا من أجل إستقرار الاسعار وتحسين آداء البورصات الأميركية واستمرار تثبيت التاج على رأس الدولار الأميركي، و/أو ان يقبل باستقبال القواعد الأميركية على ارضه تحت حجج حفظ الامن الاقليمي، على أن يقوم المضيف بالانفاق عليها من خزينة دولته وعلى حساب تنمية مجتمعه وتحسين مستويات معيشتهم، و/أو ان يقبل بالتآمر على جيرانه من الدول المصنفه خطر يهدد المصالح الأميركية، و/أو ان يقبل بتمويل المنظمات الارهابية التي صنعتها أميركا بما فيهم النازيون الجدد والتي أوكلت اليهم مهام تدمير مقدرات الدول والشعوب وزعزعة الاستقرار، من اجل اقناع المجتمع الدولي لاحقًا بأن هناك انتهاكات لحقوق الانسان تستدعي التدخل الأميركي، و/أو ان يقبل بانتهاك سيادته برًا وبحرًا وجوًا تحت ذريعة حماية الامن القومي الأميركي، و/أو أن يقبل بان دولة الاحتلال الاسرائيلي اصبحت دولة اقليمية ضرورة وشريك يجب تطبيع العلاقات معها في مواجهة عدو وهمي مصطنع، و/أو وان يرضخ النظام السياسي للدولة لاملاءات واشنطن بالتخلص من السلاح السوفييتي أو الصيني، من أجل عقد صفقات بمليارات الدولارات مع شركات السلاح والتكنولوجيا الأميركية، بموجب وجهة النظر الملتوية هذه، يحصل النظام المنبطح على شهادة حسن سلوك ويصبح رائدًا في مجال الديموقراطية وحقوق الانسان وصديقًا لواشنطن.

وبغير القبول بتأمين المصالح الأميركية، سيستمر إدراج الانظمة في عدد من دول العالم على قوائم اعداء الديموقراطية والمعادين للنظام الليبرالي في العالم، وقد يحصل على ترقية اعلى من ساسة واشنطن بوسمه كـــ ” مجرم حرب” مثلًا، كما وصف بايدن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، او “طاغية” كما وصف جورج بوش الرئيس العراقي صدام حسين، أو “ارهابي” دبلوماسي كما اطلق وزير خارجية دولة الاحتلال “اسرائيل” المتطرف افيجدور ليبرمان، على الرئيس الفلسطيني محمود عباس. بينما سبق وأن وصف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الرئيس الفانزويلي نيكولاس مادورو “بالغير الشرعي” ومغتصب للسلطة”، إلا أن ساكن البيت الابيض الجديد هرول الى فانزويلا باحثًا عن نفطها كبديل للنفط الروسي، فمن كان “مغتصبًا للسلطة” بالامس اصبح مثار نقاش مرحبًا به داخل البيت الابيض وفي اروقة الكونجرس، ويوصي حماة الديموقراطية بضرورة رفع العقوبات عنه، وامداد بلاده بأحدث الوسائل التكنولوجية لزيادة إستخراج وضخ الذهب الاسود الى السوق الأميركي، الى جانب، استعداد أميركي مفرط لاعادة بناء البنية التحتية للقاعدة الصناعية والنفطية، التي تسبب الحصار الأميركي بإضعافها الى حد كبير، بالاضافة الى تعهد أميركي بلجم المعارضة ومنعها من انتقاد نظام مادورو. ومع فشلها في كسب وُد كاراكاس. قايض مفاوضوا اوروبا باعتبارهم مندوبي الادارة الأميركية في مفاوضات فينا، الوفد الايراني للمفاوضات برفع العقوبات عن طهران المصنفة على القوائم الأميركية “راعية الارهاب في العالم” وإعادة احياء اتفاقية العمل الشاملة المشتركة، مقابل استئناف ضخ النفط والغاز الايراني للاسواق الأميركية والاوروبية، والمشاركة في اكمال حلقة الحصار المفروض على روسيا، الامر الذي رفضته طهران.

بعد مئة عام من عقيدة مونرو الامبريالية، تستحق واشنطن بجدارة جائزة أسرع دولة تتخلى عن اصدقائها، الى جانب تخليها الدائم واللامحدود عن مبادئها المزعومة، واستمرارًا في هذا النهج، سيطل علينا منتصف الشهر الجاري الرئيس الأميركي جو بايدن، حاملًا معه النسخة الاصلية لمعنى ان تكون صديق للولايات المتحدة، ليعرضها على قادة دول الشرق الاوسط، والذي سبق وان تخلت عنهم واشنطن في ذروة الحاجة، معلنًا دون خجل ان حضوره الى المنطقة يهدف الى تحقيق المصالح الأميركية وفي مقدمتها تأمين امدادات الطاقة، الى جانب الضغط على بعض الدول لتفعيل إحدى البنود الواردة على القائمة، لتكتسب هذه الدولة او تلك صفة صديق لواشنطن.

فهل يستفيد قادة المنطقة من التاريخ الحافل لواشنطن بالتخلي عن اصدقائها، وان يظهروا موقفًا موحدًا على غرار موقف معظم قادة أميركا اللاتينية الذين تضامنوا معًا ورفضوا حضور مؤتمر قمة الأميركيتين الذي عقده بايدن في لوس انجلوس مفضلين استعدادهم لدفع فاتورة عدم صداقتهم لأميركا، على الموت من اجل مصالحها، وعلى غرار اعلان دول جنوب شرق آسيا بأن لا مصلحة لنا باستعداء جارتنا الصين، وبالتالي يعيدوا بايدن الى البيت الابيض دون ان يظفر بصديق أو تحالف جديد.

د. عوض سـليميـة

حاصل على الدكتوراة في العلاقات الدولية في تاثير اللوبي الإسرائيلي على السياسة الخارجية تجاه القضية الفلسطينية من جامعة university utara Malaysia. زميل ابحاث ما بعد الدكتوراة في السياسة الخارجية الأمريكية. مدير برنامج السياسة الخارجية الامريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى