الاحدثدولي

لماذا أصبح العالم أقل أمانًا؟ | بقلم غابي طبراني

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

الأمنُ الدولي هو في جَوهرِهِ عملٌ سرّي. تُحِبُّ الحكوماتُ والجيوشُ إخفاءَ قُدراتها وخططها عن منافسيها. ومع ذلك، في سنواتِ ما بعد الحرب الباردة، أصبحت الدول أكثر شفافية بشأن أوضاعها العسكرية وذلك بهدفِ خلقِ شعورٍ جديد بالتعاون والانفتاح الدوليين. لكن هذه العملية عادت الآن إلى الاتجاه المعاكس، مع تدهورٍ حاد في ترتيبات الشفافية بعد الحرب الباردة.

مع إعلان الحرب في أوكرانيا عن حقبةٍ جديدة من صراع القوى العظمى وانعدام الثقة، هل تستطيع المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة، فعل أي شيء للحفاظ على بعض الشفافية بالنسبة إلى الشؤون الأمنية بين الدول؟

الواقع أن الفكرة القائلة بأنه يجب على الهيئات المُتعَدِّدة الأطراف أن تُعزِّزَ الشفافية في مسائل الأمن الدولي تعود إلى عصبة الأمم، التي كانت تنشر سنويًا كتابَ التسلّح السنوي ومعلوماتٍ إحصائية عن النفقات العسكرية. ومن المعروف أن العصبة أصدرت كتابها السنوي الأخير في صيف العام 1940، في الوقت الذي كان جيش ألمانيا النازية ينتشر في أنحاء فرنسا.

غالبية آليات الشفافية الحالية، التي تستند أو لا تستند إلى الأمم المتحدة، هي حديثة العهد. لقد طلبت المنظمة الدولية من الدول الأعضاء فيها البدء في تقديم معلوماتٍ حول الإنفاق الدفاعي إلى تقرير الأمم المتحدة عن النفقات العسكرية (UNMILEX) في العام 1980. وأنشأت سجل الأمم المتحدة للأسلحة التقليدية (UNROCA) في العام 1991.

شهدت أوائل التسعينات الفائتة أيضًا زيادة في الاتفاقات الطموحة بعيدًا من الأمم المتحدة والتي تهدف إلى زيادة الشفافية العسكرية في أوروبا. فقد شملت معاهدة القوات التقليدية في أوروبا في العام 1990 حدود انتشار القوات في القارة وآليات التحقّق منها، ومعاهدة الأجواء المفتوحة، التي سمحت للدول المشاركة بإرسال رحلات مراقبة فوق أراضي بعضها البعض التي وُضِعَت في العام 1992. وكانت منظمة الأمن والتعاون دعت في “وثيقة فيينا” الأوروبية، التي يرجع تاريخها إلى العام 1990، إلى تبادل المعلومات والمشاورات من قبل الدول الأعضاء بشأن القوات والتدريبات. في حين كان هناك قدرٌ أقل من التقدم منذ ذلك الحين، فقد طلبت معاهدة تجارة الأسلحة من الأطراف في العام 2013 الإبلاغ عن “الصادرات والواردات المُصَرَّح بها والفعلية للأسلحة التقليدية”.

العديد من هذه الآليات الآن مُعطَّلٌ أو في حالة من الفوضى. رفض أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) التصديق على تحديث 1999 لمعاهدة القوات التقليدية في أوروبا بسبب تواجد القوات الروسية في جورجيا ومولدوفا. قامت روسيا “بتعليق” مشاركتها في المعاهدة في العام 2007 و”أوقفت” الامتثال في العام 2015، على الرغم من أنها لم تنسحب رسميًا. بدورها انسحبت إدارة دونالد ترامب من معاهدة الأجواء المفتوحة في العام 2020، وحذت روسيا حذوها في العام 2021. ورفضت موسكو أيضًا التزامات وثيقة فيينا للسماح بالتدقيق الدولي في حشدها العسكري حول أوكرانيا في العامين 2021 و2022.

ولكن إذا بدت روسيا عازمة على تمزيق أجندة الأمن الأوروبي، فإن تراجع ترتيبات الشفافية غالبًا ما يكون ظاهرة واسعة الانتشار وأكثر تدرّجًا. يشيرُ معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، إلى أن عدد الدول التي تُقدِّمُ البيانات إلى آليات الأمم المتحدة “انخفض بشكلٍ كبير”. قدمت 40 دولة فقط من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 تقارير عن الإنفاق العسكري إلى “تقرير الأمم المتحدة عن النفقات العسكرية” في دورة إعداد التقارير لعام 2021. وكان عدد الدول التي أبلغت عن عمليات نقل أسلحة إلى “سجل الأمم المتحدة للأسلحة التقليدية” عند مستويات مماثلة في السنوات الأخيرة.

إن تراجعَ هذه الآليات المُتعدّدة الأطراف لا يعني عدم وجود شفافية على الإطلاق. والأهم من ذلك، إن آليات الشفافية بشأن الأسلحة النووية الاستراتيجية الأميركية والروسية، المُدَوَّنة في معاهدة ستارت الجديدة، لا تزال سارية. خارج الأمم المتحدة، لعبت المعاهد، مثل معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، دائمًا دورًا مهمًا في جمع ونشر المعلومات حول المسائل الأمنية، وهي مُستَمِرّة في القيام بذلك. وهي تنشرُ عن بلدانٍ عدّة، فشلت في توفير المعلومات إلى “تقرير الأمم المتحدة عن النفقات العسكرية” و”سجل الأمم المتحدة للأسلحة التقليدية”، مُلخّصات وطنية محترمة عن إنفاقها العسكري وقدراتها. وقد كشف محققون، مثل “بيلينغكات” (Bellingcat) (مجموعة صحافة استقصائية مقرها هولندا متخصصة في تدقيق الحقائق والاستخبارات)، عن قدرٍ مَلحوظٍ من الأنشطة العسكرية للدول باستخدامِ استخباراتٍ مفتوحة المصدر.

يقول بعض المُحلّلين أننا في الواقع ندخل “عصرًا جديدًا من الشفافية” حيث “تَدخُلُ قوى التكنولوجيا في عصرٍ جديد من الانفتاح الذي لم يكن من المُمكن تصوّره قبل عقود فقط”. تبنّت الولايات المتحدة وحلفاؤها هذا الاتجاه في الفترة التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا هذا العام، حيث تقاسما قدرًا غير مسبوق من المعلومات الاستخبارية حول الاستعدادات العسكرية الروسية لإقناع الدول الغربية المُتذبذبة والمُتَرَدّدة بأن التهديد كان حقيقيًا ولم تنجح في ردع موسكو عن القيام بعمليتها.

ومع ذلك، فإن العَمَلَ اليومي المُتَمَثِّل في تبادل المعلومات حول الأسلحة التقليدية ومبيعات الأسلحة والتدريبات العسكرية من خلال آلياتٍ مُتَعَدّدة الأطراف له قيمته الديبلوماسية الخاصة. عندما تكون الدول على استعدادٍ لتبادلِ البيانات، وخصوصًا عندما تكون على استعدادٍ للسماح لدولٍ أخرى أو جهاتٍ فاعلة مُتعَدِّدة الأطراف باختبارِ صحّة تلك البيانات، يمكنها إثبات مصداقيتها وإنشاء الأساس للحوارات الأمنية. حتى إذا كانت الدول لا تثق ببعضها البعض، فيمكنها تعلّم وبناء الثقة من المؤسسات والعمليات التي تُتيح تبادل المعلومات.

أكّدَت مجموعةُ الأزمات الدولية على أهمية مثل هذه العمليات في حالة الخليج العربي، حيث كانت الشفافية العسكرية مُفتَقَرَة إلى حدٍّ بعيد. في تقريرٍ صدر في العام 2020 عن المنطقة، أوصت مجموعة الأزمات باتّباعِ نهجٍ تدريجي لبناء الثقة، بدءًا من إنشاء خطوطٍ ساخنة عسكرية و، بعد خطوات أخرى، تبلغ ذروتها في إيماءاتٍ تشملُ “الإخطار المُسبَق بتحرّكاتِ القوات والتدريبات العسكرية؛ [و] السماح للخصوم بإرسالِ خبراءٍ عسكريين لمراقبة مثل هذه المناورات”.

وبالتالي لا تزال هناك قضيةٌ لتعزيز آليات الشفافية الأمنية المُتعدّدة الأطراف التي تتمتّع بمصداقيةٍ واسعة النطاق ويُمكن أن تُسهّل تدابير بناء الثقة. هذا الأمر بات أكثر إلحاحًا مع ارتفاع الإنفاق العسكري في جميع المناطق تقريبًا، ومن المُحتَمَل أن تكون الدول متوتّرة بشأن كيفية استخدام منافسيها لهذه الأموال. إن انتشارَ الآلات الحربية الجديدة، مثل الطائرات المُسيَّرة، والتكنولوجيا، مثل الأسلحة الإلكترونية، لن يؤدي إلّا إلى زيادة القلق وانعدام الثقة.

ولكن إذا كانت هناك قضية منطقية لإعادة التفكير وإحياء أدوات الشفافية، فمن المرجح أن يُركّزَ العديد من الدول بدلًا من ذلك على الردع –وبناء ترساناتها الخاصة– في السنوات المقبلة. قد يكون هناك عددٌ قليل نسبيًا من الأصوات في الساحة الدولية التي تدعو إلى مزيد من الانفتاح لبعض الوقت.

في ظل هذه الخلفية، يعود الأمر إلى منظماتٍ مثل الأمم المتحدة، وقادةٍ مثل الأمين العام أنطونيو غوتيريش، لمواصلة الدفاع عن قضية الشفافية وبناء الثقة. لا تملك الأمانة العامة للأمم المتحدة النفوذ لجعل الدول تشارك الأسرار الرئيسة حول برامج أسلحتها من خلال القنوات المُتعددة الأطراف. لكن لديها خبراء في شؤون الحد من التسلّح ضمن موظفيها للتوصّل إلى أفكارٍ حول الشكل الذي يمكن أن تبدو عليه آليات الشفافية في المستقبل، ويمتلك الأمين العام سلطة الدعوة إلى الاجتماع لإثارة مزيدٍ من النقاش حول هذا الموضوع.

في العام الفائت، أعلن غوتيريش أن الأمم المتحدة ستعمل على “أجندة جديدة للسلام” بحلول العام 2023 لتحديد الاستجابات الجماعية للتهديدات الأمنية. في هذا العام، عيّن مجلسًا استشاريًا رفيع المستوى بشأن التعددية الفعالة للتفكير في مستقبل الحوكمة العالمية. قد تكون فكرة جيدة لأولئك الذين يعملون على هذه العمليات لمعالجة تدهور آليات الشفافية الأمنية وجهًا لوجه وطرح بعض الأفكار الجديدة حول كيفية إحياء تبادل المعلومات والانفتاح في عصرٍ يجمع عدم الثقة والشكّ على الصعيد الدولي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى