الاحدثدولي

نيكتا خروتشوف وإدارة التغيير من الصعود للهبوط (١) | كتب مجدي منصور

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

الكاتب السياسي مجدى منصور يفتح ملف تجربة الزعيم السوفيتي نيكيتا سيرجيفيتش خروشوف فى التحول السياسي.

نجم صاعد في سماء الكرملين

لدى إعجابٌ خاص بأسماء ثلاثة في تاريخ الحقبة الشيوعية السوفيتية وهم حسب الترتيب لدي مفكر الثورة البلشفية «فلاديمير إيليتش لينين» وفلاحها القائد «نيكيتا سيرجيفيتش خروشوف» وسياسيها المحنك «يورى أندربوف».

وأسبابي مرجعها عدة اعتبارات:

الأول – أن الثلاثة كان لهم رؤاهم المختلفة لظروفهم ولظروف عصرهم.

الثاني – وأنهم جميعاً قد تعاملوا مع العصر بفكر رائق وقاموا بتحقيق «الأحلام» بقدرة «الأفعال».

الثالث – أن جميعهم وضعوا «الجسارة» في خدمة «الإرادة» لتحقيق الإستراتيجية السوفيتية.

الرابع – وهم كذلك حاولوا أن يُعطوا بُعداً إنسانياً للتجربة الشيوعية بعد عتمة وسواد عصر «جوزيف ستالين» الذي طبع التجربة بطابع «القهر» وصبغها بصبغة «الخوف» ولونها بلون «الدم»!

الخامس – وجميعهم أصروا على المشاركة بقدم المساواة في القيادة الدولية مع الإمبراطورية الأمريكية ، وثلاثتهم غيبهم الموت المبكر أو تمت إزاحتهم على مذبح الانقلاب.

«فلينين» كان متمسكاً بالمشاركة في أوروبا الشرقية ، بالإضافة للتجديد في تناول أفكار «ماركس» و«أنجلز».

وللينين مع رفيقه في الثورة الشيوعية (ليون تروتسكي) قصة تستحق أن تُروى.

حكمة الشيوخ تروض ثورة الشباب البلشفي في معقل الإمبراطورية!

حيث كان (لينين) سنة 1910 لاجئاً سياسياً يعيش في لندن خائفاً أن يقبض عليه عُملاء (الأوخرانا) أي (البوليس السري القيصري) لكن القيادة الشيوعية في داخل روسيا بدأت تسيء الظن به وتتصور أنه استمرأ حياة المنفى (مُستريحاً) ومكتفياً بما تبعث به قيادة الداخل إليه من مبالغ مهربة بين الحين والآخر.

وكذلك فهو لا يتحرك سياسياً بما هو لازم ولا يساهم حتى في الكتابة في (أسكرا) النشرة السرية التي تُحرض على الثورة في الداخل.

وفي أوساط الحركة الشيوعية في الداخل كان هناك نجم صاعد لفت إليه الأنظار وهو (ليون تروتسكي) وكانت مقالاته النارية تظهر بانتظام في (أسكرا) وكان (لينين) معجباً بهذه المقالات من بعيد ومقدراً من خلالها لثورية (تروتسكي) و طاقته الهائلة.

ثم جاء يوم قررت فيه قيادة الداخل أن تبعث إلى لندن برسول يمثلها ليُطل على نشاط الزعيم الذي يعيش في المنفى (لينين) ويتأكد أن قلة نشاطه ليست تآكلًا في ثوريته! بفعل (ترهل أصابه) في وطن البرجوازية الأول في ذلك الوقت وهو بريطانيا وكان ذلك الرسول المختار ليُطل على (لينين) هو ذلك الشاب (تروتسكي).

وعلى نحو ما جرى إخطار (لينين) بأن ينتظر رسولاً قادماً إليه وبشكل ما فإنه عرف أن ذلك الرسول هو نفسه كاتب تلك المقالات النارية (تروتسكي) وراح (لينين) يتحسب ليوم يظهر فيه (تروتسكي) أمام بيته في حي (هامبشير) ثم جاء المنتظر ودق جرس باب البيت ذات صباح وفتحت زوجة (لينين) (كرو بسكايا) وقبل أن يقدم لها الطارق نفسه كانت قد تعرفت عليه بالوصف.

والتقى الرجلان أخيراً (لينين) الذي يعيش في المنفى و(تروتسكي) القادم من (قلب المعمعة) في الداخل إلى الغرب لأول مرة ، وبعد أن اطمئن (لينين) على أن زائره نام وأفطر اقترح عليه أن يخرج معه إلى جولة في لندن يتعرف فيها على (معاقل الإمبريالية).

كان (لينين) يُريد أن يكسب وقتاً تهدأ فيه أعصاب (تروتسكي) فلا ينطق بما عنده دفعة واحدة مكثفة تُسبب حرجًا للشيخ الثوري الكبير!

ومن ناحيته كان (تروتسكي) مُتشوقاً إلى التعرف على ذلك العالم الغريب الذي جاء إليه.

وسأله (لينين): (من أين تُريد أن نبدأ)؟

ورد (تروتسكي): (من القلعة الأكبر للإمبراطورية)!

وفيما بعد كتب (تروتسكي) يقول:

«إنه تصور أن (لينين) سوف يذهب به إلى قصر (باكنجهام) حيث يقيم الملك (جورج الخامس وقتها) أو إلى قيادة القوات الإمبراطورية أو إلى وزارة المستعمرات في (هوايتهول) لكن (تروتسكي) فوجئ بأن (لينين) يأخذه إلى المتحف البريطاني».

ويضيف (تروتسكي):

«أنه عندما فرغ من زيارة المتحف البريطاني فهم عبقرية (لينين) – (فأي رجل غيره كان يمكن أن يأخذني إلى مراكز الحكم المشهورة ويقول لي: هنا معقل الإمبراطورية.

لكن (لينين) أكد عبقريته حين أخذني إلى المتحف البريطاني لأنه بالفعل المكان الوحيد الذي يمكن فيه أن ترى (الفعل الإمبريالي) في حالة «تلبس»!

 

كنوز منهوبة من أرجاء الدنيا الواسعة كل حجرة (مُنتزعة من بلد) وكل طابق (مخطوف من قارة) المتحف كله على بعضه هو الكنز الإمبراطوري الكبير الذي استولى عليه الاستعمار من كل مكان ذهب إليه من اليونان القديمة إلى مصر الفرعونية من الهند الإسلامية إلى أطراف الصين من أعماق أفريقيا إلى غابات أمريكا كله هنا دليل حي على الغلبة والغزو.

و «خروتشوف» كان هو الذي أراد أن يُعطي التجربة وجهاً مُشرقاً بعد عتمة عصر ستالين ، وكذلك قفز قفزةً واسعةً باتجاه المنطقة الأهم في العالم (الشرق الأوسط) حينما وافق على تزويد مصر الناصرية بالسلاح (فيما عرف بصفقة الأسلحة التشيكية) ، وبعدها كان هو الذي وجه الإنذار النووي الشهير لقوى عدوان السويس 1956 على مصر (بريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل) ومد بعدها العلاقة مع كافة قوى التحرر الوطني.

وأما «أندربوف» فهو الذي قام بآخر محاولة لتجديد شباب الإمبراطورية الروسية ، وحاول استعادة التوازن بين المعسكرين الشرقي والغربي في (الشرق الأوسط) وكان ذلك عندما ربط شبكة الصواريخ السوفيتية بسوريا بعد ضرب إسرائيل أغلب قواعد الصواريخ السورية مما جعل سماء دمشق مكشوفة تماماً أمام الطيران الإسرائيلي في (حرب لبنان 1982).

كان «أندربوف» شخصية متزنة وعقلانية وفوق هذا وذاك يمتلك «رؤية»  وكان يُردد على مسمع من معاونيه:

«إن تلكؤ الشيوخ في «الذهاب» يحجب الشباب عن «المجيء» ، وأهم من ذلك يُعرقل طريقهم إلى تجربة إدارة الصراعات».

ويضيف:

«إن خشيتي أن يواجه الاتحاد السوفيتي فجوة أجيال. لنُفاجأ ذات يوم أن الشباب في الاتحاد السوفيتي غريب عن إدارة الأزمات و الصراعات لأنه لم يمارس عملياً إداراتها».

(1)

خروتشوف قُرب القمة

اسمي الرفيق «نيكيتا سيرجيفيتش خروشوف أيها الرفيق! »

خرشوف رداً على سؤال ستالين

لعل أهم مفاتيح شخصية «خروشوف» هي أنه «فلاح» ، وصفه الأستاذ “محمد حسنين هيكل”:

«(بفلاح) يبدو مُطلاً برأسه من سطور إحدى روائع القصص الروسي الزاخر بالانفعالات النفسية الغنية».

كان الظهور الحقيقي لخروشوف أثناء الحرب العالمية الثانية وتحديداً في الوقت الذي غزا فيه الفوهرر «ادلوف هتلر» الأراضي السوفيتية ، وتدفق الجيش الألماني وأمامه دبابات البانزر، وتحت أعلام النازية المذهبة وصلبانها المعقوفة السوداء، ينفذون خطط عباقرة الحرب الألمان، الذين وضعوا ونفذوا العملية «برباروسا» كما كان يرمز لخطة غزو روسيا، من أمثال الماريشالات «فون رونشتد» و«فون بوك» و«هالدر» و«فون ليست» و«جودريان».

وفي أحد اجتماعات الحزب لمناقشة الحرب لاحظ «جوزيف ستالين» أحد الموجودين يتحدث بثقة فسأله:

 ما اسمك أيها الرفيق؟

فأجاب: اسمي الرفيق (نيكيتا سرجيفتش خروشوف أيها الرفيق).

 

بعدها ألحق «ستالين» خروشوف (كقوميسيراً سياسياً) من الحزب برتبة جنرال مُلحقاً بقيادة ماريشالات المعركة على الجبهات المختلفة خصوصاً في أوكرانيا، وفي ظروف أخرى كُلف خروشوف بتنظيم المقاومة السرية وراء خطوط الألمان الذين وصلت جيوشهم إلى ستالينغراد جنوباً وإلى ليننجراد شمالاً ثم راحت تدق أبواب موسكو في الوسط في القلب.

ثم في ظروف ثالثة – بعد توقف المعارك – ألقيت إليه مسئولية إعادة بناء ما خربته الحرب بالذات في أوكرانيا.

(2)

بعد موت ستالين – سقوط الأقوياء بالإزاحة أو بالاغتيال

وحين مات (جوزيف ستالين) في (5 مارس 1953) فقد كان  لابُد وأن تحدث بعد اختفاء سلطته الأسطورية تقلصات على القمة في الكرملين تمتص وتستغرق اهتمام القيادة التي انتقلت فيها خلافته.

كانت سلطة (ستالين) الأسطورية قد كانت تخنق أنفاس الحزب تحت ثقلها كما أنها قد حولت المحيطين به من أعضاء المكتب السياسي إلى مجرد ظلال لا وزن لها ولا تأثير.

 

واحتل مقعد القيادة على عجل تلميذ (ستالين) المخلص وخليفته المنتظر وهو (جورجي مالينكوف) لكن الانتقال لم يكن ممكناً اتمامه بهذه السهولة أو هذه البساطة.

فبعد اختفاء (ستالين) بالموت اختلجت الحركة في المكتب السياسي وانتقل النبض منها خافتاً وضعيفاً إلى بقية تنظيمات الحزب وحدثت تفاعلات فكرية وذاتية لم يكن يمكن تعطيلها وهكذا سقط (مالينكوف).

وأذيع بعد سقوطه بيان بأنه أي  «مالينكوف»:

«قد (اعترف) أمام المكتب السياسي: أنه (غير كُفء) لرئاسة الوزراء وأن فهمه لمشاكل الزراعة مغلوط كما أن فهمه لمشاكل الصناعة غير كاف وأنه بناء على ذلك يطلب إعفاءه من المسؤولية».

 

وأصدر المكتب السياسي قراراً يعهد فيه إلى (مالينكوف) بتولي منصب وزير القوى الكهربائية ثم ما لبث أن عُزل عن هذا المنصب أيضاً مكتفياً بإدارة محطة كهربائية واحدة على تخوم سيبيريا.

وما هي إلا أسابيع أخرى حتى أعلن المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي عن (تصفية) أقوى رجل في الاتحاد السوفيتي بعد (ستالين) وهو (لفرنتي بريا) وزير البوليس والأمن الداخلي ولم يذكر المكتب السياسي كيف جرت تصفية (بريا).

لكن التفاصيل التي عُرفت فيما بعد كشفت عن أن («بريا» حُوكم بواسطة زملائه من أعضاء المكتب السياسي وحكم عليه بالإعدام. 

وذلك لأن جميع الأعضاء كانوا يريدون التخلص من الرجل الذي كان يعرف عنهم أدق أسرارهم!

ثم استُدعى (بريا) إلى قاعة اجتماع المكتب السياسي وطُلب من جنرال في الجيش السوفيتي بتنفيذ الحكم فوراً وقد نفذ بالفعل الأمر في حجرة مجاورة وانتهى أمر الرجل المخيف في الاتحاد السوفيتي والذي كان يُقال عنه:

«إنه يسمع همهمة الصدور في الاتحاد السوفيتي!» في دقائق معدودة.

(3)

خرشوف فوق القمة بعد إزاحة الأقوياء!

«إن الماريشال تاه عجباً بنفسه وأراد أن يجعل الجيش فوق الحزب!».

خروشوف عن الماريشال جوكوف

وبعد فترة قصيرة شق نجم جديد طريقه إلى قمة الكرملين بسرعة وحيوية وأصبح (نيكيتا سيرجيفيتش خروشوف) زعيماً جديداً للاتحاد السوفيتي يُمسك في يده بسلطة الحزب والحكم معاً وإن كان (بولجانين) عُين رئيساً للوزراء كما أن المارشال (جوكوف) عُين وزيراً للدفاع.

ومع ذلك فإن (خرشوف) نفسه كاد أن يسقط من أعلى القمة حين رأى بعض الأقوياء في المكتب السياسي من أمثال (مولوتوف) و(كاجانوفيتش) أن السكرتير العام الجديد بدأ يتجاوز حدوده وعقدوا بالفعل جلسة لمحاكمته أرادوا عزله بعدها.

وكان من ضمن التهم التي وجهوها إليه شهادة أدلى بها وزير الخارجية السوفيتي في ذلك الوقت وهو (ديمتري شبيلوف) الذي قال أمام المكتب السياسي:

«أن خرشوف لا يصلح بحكم تصرفاته أن يكون زعيماً للاتحاد السوفيتي وأنه يكاد يذوب من الخجل مرات بسبب تصرفات خرشوف ومن أمثلة هذه التصرفات أنه أي شبيلوف – حضر اجتماعاً بين خرشوف ورئيس جمهورية فنلندا وطوال الاجتماع كان خرشوف لا يكف عن هرش صدره وتحت إبطيه وكانت ملابسه الداخلية مملؤة بالقمل والبراغيث»!

لكن (خُرشوف) استطاع أن يفلت من حصار الاتهامات والمؤامرة مُستعيناً بنفوذ حليفه في الجيش وهو المارشال (جوكوف) بطل الحرب العالمية الثانية الذي دك مقر الفوهرر (أدولف هتلر) في قلعة النسر.

ولم تكد تمضى ثلاثة شهور حتى وجد (خرشوف) أن عليه (التخلص) من (جوكوف) بصرف النظر عن دينه له فـ(جوكوف) يستند على (قاعدة الجيش) وهذه القاعدة تمثل (قوة حقيقية وبالتالي سلطة حقيقية).

ولم يتردد خروشوف في أن يعزل الماريشال (جوكوف) ، بطل الاتحاد السوفيتي الشهير وصاحب الدور الكبير في معركة النصر وقال خروشوف: 

«إن الماريشال تاه عجباً بنفسه وأراد أن يجعل الجيش فوق الحزب!».

واستطاع (خرشوف) أن يستميل إلى جانبه عدداً من مارشالات الاتحاد السوفيتي من بينهم (كونيف) و(سوكولوفسكي) و(روكوسوفسكي) و(أنطونوف) و(مالينوفسكي) و(فاسيلفسكي) وتمكن بمساندة هؤلاء  جميعًا من مواجهة الماريشال (جوكوف) الذي اضطُر إلى تقديم استقالته ونشر باسمه بيانًا في جريدة (برافدا) يقول فيه:

«لقد اكتشفت الآن لأسفي البالغ أنني ارتكبت أخطاء جسيمة في القوات المسلحة فلقد حاولت عرقلة العمل السياسي للحزب في صفوف الجيش وإذ أعترف بأخطائي أمام المكتب السياسي فأني أعترف أيضًا بحق الحزب في تقويم هذه الأخطاء».

وبعد أن تخلص خروشوف من منافسيه ومناوئيه اتجه لتنفيذ رؤيته في تجديد التجربة الشيوعية في الداخل وفتح مجال الحركة والتأثير بشكل أكبر لدور الاتحاد السوفيتي في الخارج.

وهو ما سنتعرف عليه في الجزء القادم.

المراجع

 ملفات السويس – محمد حسنين هيكل.

سنوات الغليان – محمد حسنين هيكل.

الرفيق نيكيتا ظالم أم مظلوم – د. حاتم مظلوم.

 

مجدي منصور, محامي مصري وكاتب سياسي

مجدي منصور كاتب سياسي مصري له العديد من المقالات والدراسات المنشورة بكبرى المواقع ك (ساسة بوست - نون بوست - هاف بوست- عربي بوست - روافد بوست).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى