ا
البحث العلمي في العالم العربي: الوضع الراهن والاحتمالات المستقبلية
بعيدا عن جميع أنماط العادات والتقاليد والعواطف المشتركة التي قد يجتمع حولها البشر، والتي تشكل نواة أساسية لنشأة المجتمعات الإنسانية، لابد من الاعتراف بأن العلم بشكل عام والبحث العلمي على وجه الخصوص، ليس فقط عاملا هاما للجمع بين البشر، ولكنه أداة أيضا لبناء المجتمعات المتقدمة وصناعة مستقبل الأجيال القادمة. ولعل السبب الرئيسي لاهتمام الغرب بالبحث العالمي قد يكمن في حرصه على دراسة وتقييم المجتمعات العربية والعالم أجمع.
يكفي أن نلقي نظرة أكثر شمولية على التطور العلمي والتكنولوجي للغرب، والذي ارتبطت بداياته الأولى بالثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر والمستمرة على مدار ثلاث قرون حتى يومنا هذا. فالثورة الصناعية تتمثل في النقلة النوعية الكبرى والتغييرات الجذرية التي حدثت على صعيد مجالات عدة كمصادر الطاقة الجديدة والوسائل المستحدثة في نقل وتبادل المعلومات والسلع بين جميع دول العالم وإعادة تنظيم وهيكلة المجتمعات، حيث استغرق الأمر قرابة الـ 100 عام .
وكانت الآثار المترتبة على التقدم الصناعي الهائل عظيمة جدا، فقد أصبح الغرب قادرا على قيادة العالم والإمساك بزمام الأمور، كما أصبح له السيادة في مجالات عدة من بينها العلوم والتكنولوجيا.
وحقيقة، فإن الأمر الذي يستدعي تسليط الضوء عليه في سياق النهج السابق هو كيفية تحقيق الترابط الوثيق في ضوء الاحتياجات المشتركة بين التنمية الاجتماعية من جهة، وإقرار نظام تعليمي عالي الأداء يستند إلى بنية تحتية قوية من البحث العلمي من جهة أخرى، ولعل ذلك ما يستدعي ضرورة تحقيق التكامل وتوحيد الرؤى بين كل من الأكاديميين ورجال الأعمال في القطاعين العام والخاص.
والثورة الصناعية في الغرب قد تضمنت ثلاث مراحل استمرت على مدار قرن كامل، بحيث يمكن القول بأنها ثلاث ثورات وليس ثورة واحدة، وقد شهد ذلك القرن العديد من التغييرات الجوهرية على كافة المستويات، ولعل البعض ممن يدعون بأن هناك أربع ثورات صناعية في العالم، يخلطون بين كلا المفهومين “الابتكار” و”الثورة”، فحقيقة الأمر أن هناك معايير ثلاث شكلت الملامح الأساسية للثورة الصناعية:
* مصادر الطاقة الجديدة
* الوسائل الحديثة في نقل المعلومات والبضائع والاتصال بين البشر
* إعادة الهيكلة التامة للاقتصاد والمجتمع بوجه عام
الثورات الصناعية
لقد تعرضت لتداعيات الثورة الاصناعية الاولى والثانية في الدراسة المنشورة على الملف الاستراتيجي في تشرين الثاني الثورة اللبنانية في ضوء نظرية جوزيف شومبيتر “التدمير المبتكِر”
الثورة الصناعية الثالثة
بدأت عام 1990 مع الاختراع المذهل لشبكة المعلومات العنكبونية العالمية والتطبيقات المترتبة عليها والتي سمحت بمجال لامحدود من الاتصالات على نطاق عالمي كبير، لقد نجح ذلك الابتكار المذهل في إحداث تغييرات ملحوظة على مدار ثلاثين عاما أكبر بكثير من تلك التي شهدتها المجتمعات الإنسانية على مدار 3000 عام من التاريخ الإنساني.
وبتطبيق المعايير الثلاث الأساسية للثورات هنا، سنلحظ أولا أن المصدر الجديد للطاقة هو الذكاء و الإنسان المنتج لتقنيات الذكاء الاصطناعي والتعليم الآلي،machine learning مما يعني أن هناك اتجاه متطور نحو عصر جديد من التقنيات التي تفوق القدرات الإنسانية والتي قد تخضع للمزيد أو للحد الأدنى من التحكم البشري.
وعلى صعيد الاتصالات فقد أتاحت شبكة الانترنت إمكانية تبادل المعلومات والأفكار عبر عدد من المنصات الرقمية المرتبطة في الأساس بالشبكات الاجتماعية. كما أصبح تخزين المعلومات يتم من خلال بعض الوسائل الافتراضية والرقمية، ما جعل المصادر الورقية ليست أكثر من عامل ثانوي مساعد في المعرفة، فقد أصبح حاليا قلة من الناس يقرأون الكتب والصحف والتي بات هناك إمكانية لإصدار نسخ رقمية منها أيضا فضلا عن المطبوعة، الأمر الذي وضع وسائل الإعلام التقليدية في خطر وتسبب في إغلاق عدد من المؤسسات الصحفية.
والجانب الفردي في التقنيات الحديثة يتمثل في الاعتماد الكامل من قبل البشر حاليا على هواتفهم الذكية وأجهزة الحاسوب ووسائط التخزين السحابي، ولكن تكمن نقطة الضعف هنا فيما إذا ما فقد الإنسان هاتفه المسجل عليه آلاف البيانات، لقد ضاع كل شئ إذن. ولعل الجانب الإيجابي لذلك يتمثل في المساحة المتبقية المتروكة للعقل البشري كي يقوم بإجراء بعض المساعي الإبداعية، ومن المفترض أن ذلك ينطبق على الأجيال الشابة المبدعة والتي ينطبق عليها القول المأثور للكاتب الفرنسي في القرن السادس عشر ميشيل دي مونتين «Mieux vaut une tête bien faite qu’une tête bien pleine » بمعنى أن الإنسان صاحب العقل المفكر والمبدع ، والإنسان المتطلع إلى العلم والمعرفة بوجه عام هو أفضل حالا من غيره.
أود هنا أن أذكر قصة القديس دينيس في القرن الثالث الميلادي الذي كان أول أسقف لباريس (لوتيس). تمت مقاضاته من قبل الإمبراطورية الرومانية بسبب إيمانه ، وحكم عليه بالإعدام وقطع رأسه. تقول الأسطورة إنه بعد قطع رأسه ، التقطه القديس دينيس ومشى على بعد عدة أميال من مرتفعات لوتيس ، واعظا على الطريق بأكمله ، مما جعله أحد القديسين العديدين ممثلاً بالرأس في أيديهم . كان تمثيل مثل هذه الشهادة صعبًا بالنسبة للفنان الذي غالبًا ما يظهر هالة من الضوء في مكان الرأس
وهذه هي الطريقة التي يتم تمثيل القديس في الكنائس والمتاحف.
ما معنى هذه الأسطورة في سياق عصرنا خاصة فيما يتعلق بالأجيال الشابة؟ أنا أقول الأجيال الشابة لأن جيلي كان يحفظ ويملأ رأسه بالكثير من المعلومات ؛ كثير منها عديمة الفائدة على المدى الطويل.
الآن ، تسمح لنا التكنولوجيا الحديثة بتخزين معظم المعلومات في الهواتف الذكية
Smatphone
ووسائط التخزين الأخرى باسم “ذاكرة فلاش” وغالبًا الحاسوب. هذا يترك مساحة كبيرة من رؤوسنا ، مما يجعلها متاحة للإبداع والابتكار.
ومع ذلك ، هناك جانب سلبي لهذا الاتجاه المتمثل في الاستخدام المفرط للهواتف الذكية وخاصة فيما يتعلق بالأجيال الشابة التي تفتقر إلى أساسيات اللغة الضرورية وغيرها من المهارات أثناء وجودها في المدرسة الابتدائية وحتى الثانوية ، قبل الوصول إلى المستوى الجامعي.
وتعاني الجامعات من نقاط الضعف هذه وغالبًا ما تحتاج إلى تقديم دورات في إتقان اللغة في اللغتين الفرنسية والإنجليزية إلى جانب التخصص. هذا العيب لا يرتبط فقط بعالمنا العربي بل أيضًا في الدول الغربية التي ، مع ذلك ، تستهدف أجيالًا جديدة من الجامعات.أود التأكيد هنا على تعريف الجامعة التي لا ينبغي أن تكون مكانًا للتعليم العالي فحسب ، بل يجب أن تكون أيضًا مكانًا متميزًا للبحث العلمي الذي يكمل جودة التعليم العالي.
الرؤية الغربية الحديثة لدور العلم في صناعة المجتمعات
مما لاشك فيه أن الآليات سالفة الذكر تعمل بشكل جيد في المجتمعات الغربية، ففي فرنسا مثلا هناك اتجاه واضح نحو تطوير الجامعات من خلال العمل على الدمج بين الجامعات الأقل حجما في منطقة بعينها كمنطقة أكيتانيا، من أجل إنشاء كيان جامعي أكبر حجما كجامعة بوردو الشهيرة، والتي تعد من أهم المؤسسات الأكاديمية الرئيسية في فرنسا، حيث نجحت في الجمع بين مكوناتها وأقسامها الصغيرة كقسم العلوم الفيزيائية والبيولوجية، وقسم العلوم الطبية، وقسم الدرسات القانونية، لتقدمهم في صورة كليات تقبع تحت مظلة الكيان الجامعي الأكبر، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فقد عكفت الجامعة على دمج التعليم عالي الجودة مع كليات الهندسة المختلفة، والمراكز البحثية الحكومية باختلاف مستوياتها كالمركز الوطني للبحوث العلمية CNRS)) والمعهد الوطني للصحة والعلوم الطبية INSERM) ( الأمر الذي ساعد على تحقيق رؤية أفضل على كافة الأصعدة.
فعلى الصعيد المحلي؛ نجحت الدولة في تمويل المزيد من المشروعات الوطنية والتي تعود بالنفع على المجتمع. أما على الصعيد الوطني؛ فقد تم إنشاء الوكالة الوطنية للبحوث والتي قدمت في وقت لاحق عدد من المشروعات لخدمة الاستثمار في المستقبل.
ويتمثل الهدف الرئيسي للجهود المبذولة في هذا المجال؛ في إنشاء عدد من مؤسسات التعليم العالي متعددة التخصصات والتي تعمل على رفع مستوى كفاءة وجودة البحث العلمي بما يتوافق مع أهداف واحتياجات المجتمع، سعيا منها للحصول على تقييم جيد في التصنيف الدولي للجامعات. ولعل تلك الخطوات من شأنها أن تمد الأكاديميين في فرنسا بل وأوروبا بوجه عام بالمزيد من المعلومات حول التصنيف الأكاديمي للجامعات في جميع أنحاء العالم كالتصنيف الشهير المعروف بـ (تصنيف شانغهاي لجامعات العالم) ويبرز مدى ثقل تلك الإجراءات حقيقة، في قيام الجامعات بدعم الباحثين الشباب من خلال تمويل مشروعاتهم الناشئة.
العالم العربي يعيش المفارقة الكبرى
قد يبدو جليا أن العالم العربي يمتلك قدرا هائلا من الإمكانات والتي يمكن الاستفادة منها من أجل تحقيق التقدم على كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية بل والعلمية أيضا، فقد ساعد الاستغلال الأمثل لكافة الموارد الطبيعية والمالية المتاحة إلى تطورات اقتصادية وحضرية كبيرة، والتي يمكن ملاحظتها خلال السنوات الأخيرة في عالمنا العربي.
ففي دولة الإمارات مثلا، قد لا يقتصر التقدم الملحوظ على النماذج الحضارية فقط كبرج خليفة الشهير، ولكن هناك الكثير من الأمثلة أيضا، فهناك ما يتعلق بالبنى التحتية القوية في مجال معالجة مياه الصرف الصحي، والنواحي الأكاديمية المتمثلة في وجود الجامعة الأمريكية بدبي (AUD) وأخيرا وليس آخرا؛ فقد قدمت الإمارات أول رائد فضاء عربي والذي تلقى تدريبه على يد بعض خبراء الفضاء الروس.
وهنا قد يبدو جليا أن العرب قادرون على التمويل، فالجهود المالية في البلدان العربية واضحة للعيان، ولكن صناعة التكنولوجيا لازالت غيرعربية.
ومن ناحية أخرى، فالدول العربية تتميز بتوفر القوة البشرية وذلك نظرا للزيادة السكانية المستمرة، وبالتالي فهناك الكثير من السواعد الشابة العاملة، الأمر الذي جعل متوسط العمر في البلدان العربية ينخفض عن قرينه في قارة أوروبا. ولكن الجانب المظلم في ذلك المعيار الديمغرافي الإيجابي؛ هو أن التزايد المستمر في أعداد السكان قد لا يكون مصحوبا بالضرورة بتطوير البنى التحتية الضرورية في مجالات الرعاية الصحية والتعليم وتوفير فرص العمل، وربما كان ذلك هو الدافع الأساسي نحو هجرة الكثير من أبناء البلدان العربية إلى أوروبا. ولكن على الرغم من ذلك، فهناك الكثير من الشباب العربي ممكن حققوا نجاحات بارزة في البلدان الأوروبية، فقد تمكنوا من الاندماج في المجتمعات الأوروبية، مما جعلهم بمثابة فرصة فائتة بالنسبة لموطنهم الأصلي.
ومرة أخرى، تتضح قدرة البلدان العربية على إنتاج القوة البشرية، ولكن البيئة المناسبة فقط هي القادرة على احتواء الأشخاص الموهوبين، وهي ليست عربية للأسف، وبالتالي فلازالت هناك حاجة ماسة إلى إعادة بناء القدرات البشرية وتأهليها على كافة المستويات.
وهنا يمكن القول بأن البيئة العربية تبدو متناقضة إلى حد كبير، فهناك الثروة، والقوة البشرية من الأشخاص الأكفاء ولكن لا تتوافر البنية التحتية المنظمة لاستثمار الإمكانات المتاحة. وفيما يتعلق بمجال البحث العلمي؛ فمن الملاحظ أنه لا يوجد هدف محدد للأبحاث العلمية في الدول العربية، مما يجعله لا يواكب عمليات التنمية المجتمعية. وبالرغم من ذلك، فإنه يمكن استعراض بعض الأمثلة للمؤسسات البحثية العربية.
– الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي
والذي يلعب دورا هاما في دعم القطاع الأكاديمي من خلال تمويل البرامج البحثية وبناء القدرات الأكاديمية وبرامج تطوير الخبرة البحثية لخريجي الجامعات، إلخ.
– وفي لبنان، يقوم المركز الوطني للبحوث العلمية CNRSL)) بتمويل المشروعات البحثية في الجامعات اللبنانية وتوفير المنح الدراسية للطلاب المتفوقين.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى الدور الهام لبرنامج Erasmus+ (خليفة برنامج Tempus السابق) والذي احتفل مؤخرا بمرور 20 عام على وجوده الفعلي في لبنان، والذي تتمثل مهمته في تعزيز الروابط الأكاديمية اللبنانية الأوروبية في منطقة الشرق الأوسط وجميع البلدان العربية الأخرى، وذلك من خلال برامج بناء القدرات، وبرامج التمويل الائتماني في إطار زمني يتراوح ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام، وذلك تحت مظلة وزارة التعليم العالي في لبنان. وقد تمكن البرنامج من توفير العديد من المزايا لعدد من الجامعات اللبنانية والجامعات العربية الشريكة.
دمج العالم العربي في العصر الرقمي الجديد
بتسليط الضوء سابقا على الثورات الصناعية الثلاث، يتضح لنا أن العالم العربي لم يستطع اللحاق بالركب خلال الثورتين الأولى والثانية، ولكن بالرغم منذ ذلك، فقد يتمكن العرب من مواكبة الثورة الثالثة وإثبات وجودهم.
في الواقع، فإن التداعيات الحالية للثورة الصناعية الثالثة قد باتت واضحة في جميع أنحاء العالم متمثلة في تقنيات التشغيل الذاتي والذكاء الاصطناعي والتعلم الآلى، وهنا لابد من الاعتراف بأن مشروع NEOM والذي بادرت إليه المملكة العربية السعودية؛ يعد خطوة كبرى نحو الأمام.
وعلى صعيد البحث العلمي، يشكل العالم اللامحدود من حولنا دعما كبيرا لهذا المجال الإنساني الهام، فقد تمكن الباحث كاتب هذا المقال على مدار قرابة الـ 40 عام من البحوث النظرية والتجارب العملية من التوصل إلى أنه حينما تكون النظرية صحيحة إلى حد كبير ويمكن صياغتها في صورة رموز حاسوبية تفصيلية، فإنها لا تساعد في شرح المواد و النتائج التجريبية فحسب، بل تساعد على التنبؤ بعناصر وأبعاد جديدة أيضا، فقد أثبتت العديد من الأوراق البحثية والعلمية السابقةوالحاضرة أهمية ذلك النهج المزدوج.
لقد أصبح التواصل بين العلماء والمهندسين العرب أمرا غير خاضع للمسافات بينهم، حيث بات من الممكن التواصل ومباشرة العمل بين كل منهم بشكل فوري، فالإمكانات الحاسوبية التقنية أصبحت متوفرة عن بعد، ويمكن للعلماء الاستفادة من تلك الإمكانات بصورة أفضل من ذي قبل، والآن يمكننا الاستفادة من الثورة الرقمية في عالمنا العربي.. فلنفعل ذلك إذن.
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا