بعد هجمات ايلول السعودية: “النووي” الى الطاولة مجدداً؟
ترجمته نسرين ناضر للنهار وننشره هنا بأذن من الكاتب
ماذا بعد 14 أيلول السعودية، “وهل يُطرح النووي” بشروط جديدة؟
المعلومات الواردة أدناه عن الهجوم على منشأتين في “آرامكو” أدلى بها مسؤولون كبار أمريكيون وسعوديون زاروا المنشأتين المعنيتين، ولكنهم طلبوا عدم الكشف عن هويتهم. ولم نتمكن من الوقوف على آراء المسئولين الإيرانيين لأسباب واضحة.
ماذا جرى؟
بدأ الهجوم عند الساعة 3:45 فجر يوم 14 أيلول على منشأتين نفطيتين مختلفتين هما بقيق وخريص. يشار إلى أن منشأة بقيق قيد العمل منذ أربعينيات القرن العشرين، وتمتلك قدرة إنتاجية كافية لمد نصف بلدان الاتحاد الأوروبي باحتياجاتها من النفط.
وقد استخدمت في الهجوم نحو ثلاثين أداة تجمع بين الطائرات المسيرة المسلحة وصواريخ كروز، وشنت حوالي من 20 إلى 25 ضربة استغرقت نحو 17 دقيقة في المجموع.
والمنشأة مجهزة بخاصية أمان هي عبارة عن “مفتاح إيقاف طارئ” سري يؤدي عند تشغيله إلى وقف تدفق النفط وقفا تاما لحمياتها من الآثار التي قد تترتب على تعرضها لكارثة طبيعية أو هجوم، نظرا لارتفاع نسبة المخاطر فيها. ولأول مرة في تاريخ المنشأة، بادر مهندس كان موجودا عند وقوع الهجوم بالضغط على زر الإيقاف في خضم الضربات عليها، وعلى الأرجح فإن هذه الخطوة قد أنقذت المنشأة من كارثة أكبر بكثير كانت لتحل بهم لو لم يشغل المفتاح في الوقت المناسب. وهي خطوة شجاعة جدا وسط دخان الحرب والخطر والفوضى، وعلى ضوء الأهمية التي تكتسبها كونها تَرسي سابقة في هذا المجال. ومما لاشك فيه أن فريق “آرامكو” قام بعمل مذهل.
وقد استهدفت ثلاثة مواقع تقنية مختلفة في الهجوم. وهي: منشآت معالجة المياه (الخرانات الأسطوانية)، وأبراج التثبيت حيث تتم عملية فصل النفط الخام أو تقطيره، وخط الأنابيب. ومن الواضح أن خبراء نفطيين من ذوي مستوى عالمي تولوا تحديد الأهداف واختيارها- فقد كانوا مدركين تماما ماهي الأهداف التي يجب ضربها، والمقصود بذلك منشآت محددة يصعب استبدالها ويعتبر تصليحها مهمة شاقة وعسيرة. وقد وصف أحد مهندسي “آرامكو” الشخص الذي اختار الأهداف قائلا:”هو يشبهني ولكنه يقف في المقلب الآخر”.
من هي الجهة الفاعلة؟
أولا يجب أن نفهم الخصائص الفيزيائية لنظم الأسلحة المستخدمة في الهجوم. ويشار في هذا الصدد إلى أن المسافة بين منشأة بقيق والنقطة الأقرب في اليمن التي تضم وجودا ما للحوثيين تبلغ 800 كيلومتر، مع العلم بأن الحوثيين لا يمتلكون حضورا قويا هناك. أما المسافة بين منشأة بقيق والنقطة التي تعتبر مركز ثقل للحوثين فتفوق 1100 كيلومتر، ولا تستطيع الطائرة المسيرة عبورها. ويتعذر أيضا على صواريخ كروز اجتياز كل هذه المسافة بسرعة فائقة ومن دون أن يفتضح أمرها. فضلا عن ذلك، يقول خبراء أمنيون زاروا الموقع إن “الطائرات المسيرة والصورايخ انطلقت، وفقا لاتجاه مسارها من مكان آخر عبر اليمن” والاحتمال الآخر هو أن الهجمات انطلقت من سفن في الخليج أو من الجانب الآخر من الخليج. وفي هذه الحالة تنخفض المسافة التي عبرتها الطائرات المسيرة والصواريخ إلى ما بين 80 و240 كيلومترا. وتطلب الهجوم أيضا بعض أعمال المراقبة والتحضيرات الاستخبارية الواسعة والدقيقة التي لابد من أنها استغرقت أشهر عدة. نحن أمام هجوم ذي دقة عالية في الاستهداف وقد استوجب مستوى متقدمًا من الخبرات، ولذلك يستبعد أن يكون المتمردون الحوثيون قد نفذوه بهذه الدقة والفاعلية نظرا إلى عدم امتلاكهم الإمكانات التقنية والاستخبارية والعسكرية الكافية في هذا المجال. ويشير توقيت الهجوم في خلال ساعات الليل إلى أن المنفذين أرادوا أن تقتصر الخسائر في الأرواح على الحد الأدنى، مع التسبب بأقصى قدر ممكن من الخسائر المادية وإحداث صدمة شديدة. وكان من شأن مهاجم أشد همجية أن يترك بعض الأدوات المتفجرة خلفه بحيث تنفجر متسهدفة فرق الطوارئ والعمال الفنيين الذين هرعوا أولا إلى المكان، الأمر الذي كان ليسفر عن مقتل 50 إلى 60 شخصا، ولكن من الواضح أن الجهة المنفذة لم ترد أن تصل الأمور إلى هذا الحد.
الدوافع الإيرانية
لقد حققت سياسة تصعيد العقوبات التي تنتهجها إدارة ترامب نجاحًا فائقًا في خنق رئتي الاقتصاد الإيراني والقضاء على العملة الإيرانية.
كان بإمكان إيران أن تشن هجومًا على غرار الهجوم السيبراني (المزعوم) بواسطة فيروس “شامون” والذي قضى على 30000 جهاز من أجهزة الكمبيوتر التابعة لشركة “آرامكو” في عام 2012. ولكن التسبب بتعطيل مجموعة من أجهزة الكمبيوتر، وعلى الرغم من أنه إنجاز مدهش على المستوى التقني، لا يمارس الوقع نفسه ولا يحظى بالقدر عينه من التغطية الإعلامية كما النيران المشتعلة في قلب الصحراء والتي أدت إلى التوقف أيام عدة عن إنتاج كميات من النفط تساوي نصف الإمدادات النفطية العالمية، وإلى ارتفاع سعر برميل النفط بواقع 10 دولارات.
وقد انطوى الهجوم على مخاطر أكبر، فاستقطب انتباه الجميع، وبرز احتمال اندلاع مواجهة عسكرية.
وكانت كلفة الهجوم على الجهة المنفذة أقل من مليوني دولار وفقا للتقديرات. وعند النظر إلى المسألة من منطلق العائد على الاستثمار، على الأرجح أن الهجوم تسبب بخفض قيمة الطرح الأولي المقترح للاكتتاب العام في “آرامكو” بواقع 30 إلى 50 مليار دولار، ما يسلط الضوء أيضًا على هشاشة منشآت الشركة بالنسبة إلى أي مستثمر محتمل (أو شركة تأمين)، وعليه، فإنه من أكبر العوائد على الاستثمار التي يمكن أن يحققها عمل عسكري من هذا القبيل. والرسالة التي يوجهها الهجوم إلى الولايات المتحدة والسعودية هي الآتية:” لقد ألحقتم بنا أذى كبيرًا بسبب العقوبات التي تفرضونها علينا، ولكننا نملك أيضًا أدوات يمكننا استخدامها لإلحاق الأذى بكم في المجالات التي تهمكم أيضًا”.
وكأنهم يقولون للولايات المتحدة إنهم يريدون التفاوض، إنما ليس من موقع ضعف كما خططت له إدارة ترامب.
يعلق خبير عسكري أمريكي في هذا السياق:” إنه الاستخدام الأكثر تطورًا لأسلحة مدمجة، أي طائرات مسيرة وصواريخ كروز، في التاريخ.. كان هجومًا مخططًا له بعناية شديدة وقوي الوقع والتأثير”. ووصف مسؤول أمني سعودي الهجوم في حديث مع “النهار” بأنه “النسخة السعودية عن هجمات 11 أيلول الإرهابية التي شنها بن لادن على الولايات المتحدة”.
ما بعد الهجوم
السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة تقليديًا في الخليج منذ عهد إدارة كارتر، أي عندما كان النفط المستورد من المنطقة يؤمن جزءًا كبيرًا من احتياجاتها في الطاقة، قائمة على المبدأ القائل بأن “أي هجوم على حقول النفط الخليجية هو هجوم ضدنا”. لهذا السبب أنشأت الولايات المتحدة قوة الرد السريع التي تطورت لاحقا وأصبحت ما يعرف اليوم بالقيادة المركزية (مقرها في تامبا في ولاية فلوريدا وفي قطر).
ونطرا إلى التفاوت الكبير على مستوى القوة العسكرية، تسعى السعودية إلى الضغط بشدة من أجل تدويل هذه الحادثة عبر تصويرها بأنها اعتداء على إمدادات النفط العالمية. ولكن نظرًا إلى استقلال الولايات المتحدة في مجال الطاقة بفضل تطوير تكنولوجيا النفط الصخري، كان الرد الأمريكي أكثر تحفظا عبر الإعلان عن “دعم حق السعودية في الدفاع عن نفسها”. ليس هذا الكلام ما أراد السعوديون سماعه. وربما دفعهم حتى إلى إعادة النظر في كرههم الشديد للرئيس أوباما، لاسيما وأن إدارة ترامب معروفة بإقدامها على التصرف بطريقة مرتجلة في بعض الأحيان، كأن يصحو الجميع بعد أشهر قليلة ويقرأوا في صحيفة “نيويورك تايمز” أن الولايات المتحدة تخوض مفاوضات سرية مع إيران منذ أسابيع عدة (من دون علم أي من حلفائها).
ويعني ذلك أن خطة العمل الشاملة المشتركة (أي الاتفاق النووي) قد تطرح على طاولة البحث من جديد، ولكن يجب أن يحصل ترامب على إضافة منقذة لماء الوجه، كي يولد انطباعًا بأنه أدخل تحسينات إلى “الاتفاق الأسوأ على الإطلاق” الذي وقعه أوباما. وفي هذا الإطار، يمكن أن تقدم إيران تنازلات في اليمن وسوريا أو لبنان.. يقول مسئول أمريكي كبير:” من غير المرجح أن تقبل إيران المقايضة في الموضوع السوري أو اللبناني” (وهو أمر مؤسف جدا لإسرائيل وعدد كبير من اللبنانيين)، في الواقع، غالب الظن أن موضوع المقايضة بخروج إيران من سوريا ليس مطروحا على طاولة البحث، لأن الروس لن يغادروا البلاد، ولذلك لا فائدة من إقناع الإيرانيين بالخروج من سوريا فهذا لن يؤدي إلى تحقيق أي تحسن استراتيجي، يبقى إذا اليمن الذي يعتبر، في مختلف الأحوال، أكثر أهمية للسعوديين.
تحميل الحوثيين مسئولية الهجوم يتيح للإيرانيين التسلح بإنكار شبه قابل للتصديق، ولكن الحقيقة هي أنه يؤمَن مخرجا، بحيث لا يتعرض ترامب للضغوط من أجل الرد عليهم. فلو تبنى الإيرانيون العملية صراحة (أو تسببوا بمقتل جنود أمريكيين)، لوجد ترامب نفسه مضطرا إلى الرد عسكريا.
تنطبق على هذا الهجوم مقولة كلاوسفيتز: “الحرب هي استمرار للدبلوماسية بوسائل أخرى”.