إتجاه لتحميل المودعين خسائر الأزمة المالية بما يتناقض مع المنطق وأصول المعالجة | كتب د. منير راشد
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
يتردد الكلام عن تقدير الخسائر المالية الحقيقية التي نتجت عن السياسات التي مارستها الدولة اللبنانية (الحكومة بمعناها الواسع ومصرف لبنان) منذ عقود وكيفية معالجتها. أولاً، من الواضح أن السياسات التي مورست من قبل الدولة منذ التسعينات أدت الى التدهور التدريجي في الاقتصاد لغاية تفاقم الازمة. ولكن البعض لا يزال مقتنعاً (وربما لعدم الالمام بالشأن الاقتصادي وإدارة الشأن العام) بأن على المواطن معرفة خياراته، وقد ارتكب بعض مَن عمِل خارج لبنان خطأ فادحاً في تحويل امواله الى لبنان، مثلما أبقى مَن عمل في لبنان ما حصله من عمله في لبنان. لذا تعتقد هذه الفئة مع شديد الاسف أن المواطن هو المسؤول الرئيسي عن الخسارات التي نتجت عن سياسات الدولة. كذلك كان من واجب المصارف أن تدرك المخاطر وترفض ودائع الجمهور لديها لانها الأدرى. وكما هو معلوم فإن مصرف لبنان هو المسؤول الاول عن ملاءة المصارف والحفاظ على ودائع المواطن.
تحميل المواطنين الثمن
فكفى استخفافاً بالمواطن، ومحاولة تبرئة الدولة من المسؤوليات المترتبة عليها. إن الحفاظ على ملاءة المصارف في جميع أصقاع العالم هي من مهام ومسؤولية السلطات، وخاصة البنوك المركزية، وهذا واضح جداً في قانون النقد والتسليف وبخاصة المادة 113 منه، التي تشير الى أن خسارات مصرف لبنان تغطى من قبل الخزينة، وليس من حساب المواطن. كما أن أصحاب الودائع قدموا خدمات عدة لجميع الفئات وساهموا في تمويل القروض السكنية والقروض الأخرى وأمنوا دخلاً للدولة التي غطت الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة، والبنية التحتية، الخ… واليوم نقول لهم يجب ان تعاقبوا لتمويلكم هذه الخدمات ولجلب الاموال الى لبنان. وفي الوقت ذاته نسعى من خلال الحلول المقترحة باشراف صندوق النقد الدولي الى معاودة الكرّة وإعادة تدفق الأموال الى لبنان مرة ثانية، فكم هي غريبة هذه المحاولات.
الحق على الدولة
خطأ المواطن في الاغلب انه لم يدرك أن هذه الحكومات غير قادرة على إنجاز المهمات المنوطة بها، ومارست كل السبل لطمس الحقيقة، ولم تحترم القوانين. فلحينه، لا تتوفر أرقام جلية عن مدى هدر الدولة في جميع انشطتها، وكم هوعجزها الحقيقي، وكذلك رقم دينها. كما لا نعلم كم هي ودائع المصارف بالدولار لدى مصرف لبنان، وكم استهلكت منه الدولة. فما ينشره مصرف لبنان هو فقط مجمل ودائع المصارف لديه بالعملتين مقيمة بالليرة. فعلى المواطن أن يقدّر كم بقي من ودائعه بالدولار وبالليرة اللبنانية، وان يُقيّم مدى ملاءة المصارف. فكفى اعتبار المواطن “كبش محرقة”.
لا بد من القناعة التامة بان المسؤولية الحصرية لما وصل اليه الاقتصاد تقع على عاتق الدولة بكل مؤسساتها قانونياً، ودستورياً. فهي مسؤولة عن الهدر في القطاع العام، وخاصة سياسات الدعم المتفلتة للسلع والأجور والرواتب، والتهرب من دفع مستحقات الضمان الاجتماعي. كذلك على مصرف لبنان أن يحمي ودائع المواطنين لدى المصارف، والمسؤولية الرقابية منوطة به قانونياً أيضاً. لذا على الدولة ان تُعوّض عن جميع الخسارات من المال العام (الأصول الحقيقية والمالية)، من خلال برنامج خصخصة أملاك القطاع العام لصالح المواطنين الذين استهلكت اموالهم وليس لصالح الشركات العالمية. لذا على الدولة ان تتحمل جميع الخسائر. وطرح فكرة توزيع الخسائر تدل على محاولة التهرب من المسؤولية، ولا توفر حلّاً بل ستؤدي الى المزيد من فقدان الثقة.
الاقتطاع من الفوائد ليس حلّاً
إن اقتطاع جزء من الودائع الناتجة عن الفوائد المرتفعة، والذي كان من أول اقتراحات الحكومة السابقة، حيث قدرت آنذاك بنحو 25 مليار دولار لا يقدم حلاً للازمة. ويتطلب هذا الإجراء التحصيل من الودائع المتوفرة محلياً والتي حولت للخارج منذ التحديد الاستنسابي لهذه الفترة المقترحة ابتداء من 2014. كما يتطلب هذا الاجراء (للمعاملة بالمثل) استرجاع الفائدة المرتفعة التي دفعت على القروض من قبل المدينين، وكذلك إعادة الجزء الأكبر من تكلفة خدمة سندات دين الدولة. أضف الى ذلك أنه يتوجب أيضاً إعادة الضرائب التي دفعت على هذه الفوائد لمعرفة التكلفة الحقيقية التي سيتكبدها المواطن. بالطبع أصبح هذا الحل كثير التعقيد والفائدة منه محدودة. إضافة الى ذلك يتضمن الحل محاولة إعادة تحويل أو استرجاع الودائع التى حولت من الليرة الى الدولار خلال الأزمة، و لكن هنا ايضاً يجب التريث. إذ إن بعض هذه الحسابات كان اصلاً بالدولار ومصدره من الخارج، وحُوّل قبل الازمة الى الليرة للاستفادة من الفائدة المرتفعة لليرة.
تدابير ورقية
الاقتراح المقدم من الحكومة الحالية بالتوافق مع صندوق النقد الدولي في هذا الخصوص يستهدف التعويض عن هذه الخسائر المخصومة من الودائع باستبدالها بأسهم في المصارف. فهذا يعني أن الحل يتمثل باعادة تصنيف التزامات المصارف من ودائع الى ملكية في المصارف. أي أن أصول وخصوم المصارف لن تتغير، وإنما التغيير ينحصر بالتصنيف ضمن الخصوم (الالتزامات)، وهذا بحد ذاته سيخفض من قيمة أسهم المصارف السابقة، مما ينتج عنه خسارة لاصحاب الأسهم السابقين الذين ليس لهم علاقة في الخسائر.
كما أن هذه المعاملة للودائع في المصارف سوف يقابلها أيضاً تحويل ودائع المصارف لدى مصرف لبنان من احتياطي الى بند رأسمالي لمصرف لبنان. فتكون النتيجة ان زيادة رؤوس أموال مصرف لبنان والمصارف هي عملية محض ورقية، ولن تقوّي قاعدة الجهاز المصرفي.
الحل في الخصخصة بعد إصلاح المؤسسات
إن الحل الأبسط هو أن تتكبد الدولة هذه الخسائر كونها المسبب الاساسي، من خلال خصخصة القطاع العام للتعويض على المواطنين الذين نُهبت اموالهم وخسروا ودائعهم، وذلك من خلال إنشاء شركات مساهمة واسعة الملكية. يحتاج هذا الاجراء إلى الاعتماد على الخبرات في عمليات الخصخصة وأن يمتد على بضع سنوات لإتاحة المجال أمام إصلاح هذه المؤسسات اولاً، كي لا ينتج عنه تذويب لقيمتها الحقيقية. وسوف يقوّي هذا الاتجاه الحل الاقتصادي من خلال تقليص دور الدولة فيه من خلال رفع انتاجية ودور القطاع الخاص، مما ينتج عنه استفادة لجميع اللبنانيين. لكن الخطوة الاولى يجب أن تبدأ بالتحرير الكامل لسعر الصرف ابتداء من اليوم. ذلك أن أي تأخر في هذا الإجراء يضر بالاقتصاد بعكس ما تعتقد السلطة الكريمة. فمن دون تحرير وتوحيد سعر الصرف لجميع المعاملات تستمر الأزمة المالية كما رأينا منذ نهاية 2019. إن تحرير سعر الصرف والخصخصة، إضافة الى جدولة الأصول والخصوم المالية العامة والخاصة، كفيلة بان تضع الاقتصاد على مسار التعافي. أما الاتجاهات الحالية فستزيد من التعقيد من دون التوصل الى حلول.
المصدر: اضغط هنا