إقتصادالاحدث

الإصلاح و مصير الودائع : خطة إنقاذ ذاتية | بقلم د. منير راشد

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

من أهم مخلفات الأزمة الحالية هي الخسارات التي سجلها القطاع العام وانعكست في استهلاك الجهاز المصرفي لمعظم ودائع المواطنين. لقد استثمرت المصارف معظم ودائع الزبائن في القطاع العام وأغلبها من خلال مصرف لبنان، و الذي بدوره استخدمها لتغطية نفقات الدولة ومؤسساتها . فالسلطة اساءت الامانة و لم تستطع إدارة الاقتصاد بفعالية وشفافية. واستمر المواطن بتحمل التكلفة الباهضة من مُخلفات الأزمة و تمثلت بالأخص بارتفاع البطالة، و انتشار الفقر، و التضخم و قضم ودائعه. و من الواضح ان سياسات خفض هذه الاعباء من خلال الدعم اتت مغايرة لتطلاعات المواطن و رغبة السلطة. يجب اعطاء الاولية في الحل لتعويض الودائع بالدولار في مصرف لبنان كونها تمثل ما يفوق ال 60% من مجمل الودائع و تفتقد لاية ضمانات.

يعتبر المواطن أن تحرير ودائعه هي من أهم همومه و قد استجاب البيان الوزاري بالاشارة إلى أن خطة الإصلاح للقطاع المصرفي التزمت أن تلحظ ” اعطاء الاولوية لضمان حقوق و اموال المودعين”. فهدر اموال المواطن نفذها القطاع العام و يجب ان يتحمله. لقد تكبد القطاع الخاص بما فيه الكفاية، و التفكير بتطبيق “هيركت” على الودائع او توزيع الخسائر هومن ابسط الحلول ولكنه الاسواء و قد يواجه دستوريًا و قضاءيًا. كما ان “الهركت” تمارس حاليا على السحوبات و كلفت المواطن خسارات توازي 5 مليار دولار. ان الاجراءات التي مُورست منذ بدء الازمة ادت الى تسارع تدهور الوضع الاقتصادي و المالي بدلا من اصلاحه، ولم تبدِ السلطة اهتماما لمعالجته. فهل تستطيع الدولة الالتزام باعادة مدخرات المواطن و ثقته؟

أولًا : الإصلاح
ان الخطوة الاولى لاعادة الثقة تتمثل باخذ اصلاحات نقدية و مالية و هيكلية، و من اهمها تحرير و توحيد سعر الصرف حالا لجميع المعاملات لما لتعدد اسعار سعر الصرف من مضار جسيمة على الاقتصاد. ان الاعتقاد بأن الضرر من السيولة ستشكل عبء على الاقتصاد، فلا بد من الادراك ان ضرر تعدد الاسعار وحجز الودائع هو اعمق من اثر السيولة. ان تحرير سعر الصرف و السحب من الودائع على السعر الحر بحد ذاته يوفر حلا مهمًا لمعضلة الودائع و الوصول اليها، و سيكون المودع راضيًا بأن يعُوض عن ودائعه بالدولار بالليرة على اساس سعر السوق الحر. و حينها سيتخلى عن المعاملات النقدية التي اغرقت الاقتصاد بالسيولة و سارعت في انهيار الليرة. ان تحرير سعرالصرف آت و لا مفر منه فالاجدى اعتماده حالا لتفادي تكلفة التاجيل التي ستكون اكثر كلفة.

ثانيًا: “self- bailout” تطبيق خطة انقاذ ذاتية لمصرف لبنان للتعويض عن خسارة 65 مليار دولار

في المرحلة الثانية او تزامنا يتوجب معالجة الودائع لدى مصرف لبنان بالدولار التي لا يقابلها اية ضمانات و تشكل نحو 65 مليار دولار من مجمل الودائع البالغة 106 مليار دولار في نهاية حزيران. اما الودائع الاخرى فهي مستثمرة في القطاع الخاص و السندات و يقابلها ضمانات .

واستخدمت الـ 106 مليار من الودائع بالدولار كالتالي:

* ودائع لدى مصرف لبنان من المصارف بلغت نحو 65 مليار دولار ( مقدرة، كون مصرف لبنان لا يصرح عن هذا الرقم.
* استثمارات المصارف في اليوروبند للدولة اللبنانية (8 مليار دولار).
* قروض للقطاع الخاص المقيم وغير المقيم بالدولار (23 مليار دولار).
* اصول اخرى للمصارف بعملات اجنبية ومن ضمنها حيازات في الفروع بالخارج (10 مليار دولار).

لابد من اللجوء الى موجودات القطاع العام النقدية و الحقيقية للتعويض عن الودائع في مصرف لبنان التي استهلكت والتي تُفترض غير متوفرة ومعظمها خسارات (في الكهراء و غيره) و لا يقابلها اية ضمانات. فالقطاع العام ككل هو من هدر هذه الودائع وساهم في ذلك عدم الاكتراث او القدرة للجهاز الرقابي و السلطتين التنفيذية و التشريعية الاشراف الفعال على اداء القطاع على الرغم من التحذير من مخاطر تخطي الملاءة اللازمة خلال عقود.
ان الاسلوب الابسط و الاكثر فعالية يتمثل باستخدام:

أولاً، ما تبقى من اصول مصرف لبنان النقدية بالعملات الاجنبية لاعادة اموال المستثمرين (المودعين) ، كما يحدث حين يتعثر القطاع الخاص عن التزاماته. فمن الممكن اعادة نقدا 14 مليار دولار الى المصارف من الاحتياطي الالزامي المتبقي. و قد تعيد السلطة النظر، إضافة، في تسييل جزء من الذهب و ايداعها في المصارف للتعويض عن الودائع. ان الاعتقاد بأن الذهب هو سندا للثقة هو اعتقاد خاطىء، و يعطي ثقة زائفة لأداء الاقتصاد. و كما معلوم فانه يُعتبر في كل دول العالم الاخرى كجزء من الاحتياطي النقدي ويستعمل هكذا. بعد تحرير سعر الصرف و توقف مصرف لبنان عن تزويد النقد الاجنبي للسوق، تصبح ادارته اكثر فعالية و تركز على ادارة السيولة للعملة الوطنية.

ثانيًا، استخدام اصول حقيقية للدولة من خلال الخصخصة للتعويض عن المبلغ المتبقي البالغ 51 مليار دولار. ويقدر مجموع قيمة مؤسسات الدولة القابلة للخصخصة في المرحلة الاولى (الهاتف -اوجيرو، الطيران – الميدل ايست، الكهرباء ، عقود استأجار المرفىء وشركات عقارية و المطار و بلوكات المياه البحرية- الغاز و النفط، الخ) بما لا يقل عن 50 مليار دولار، بالاستناد الى تقييمها على اساس الارباح المتوقعة بادارة خاصة. و السؤال هو كيف ستأتي ال 51 مليار دولار؟ من خلال التالي:
انشاء شركات مساهمة منفردة لكل مؤسسة اساسية من مؤسسات القطاع العام بادارات خاصة في اسىرع وقت و يصدر مقابلها اسهم سوقية مقيمة بالدولار على غراراسهم الشركات المدرجة حاليا في بورصة بيروت (كسوليدير و غيره). و يستعان بالخبرات المحلية والدولية المتخصصة لتشكيل لجنة خاصة مهمتها تنفيذ هذا الهدف ولاصدار اكتتابات جديدة. و تُعرض هذه الاسهم تدريجيا من خلال بورصة بيروت و تتاح لمن يرغب بما فيه المودعين المقيمين و غير المقيمين. ومن الطيبعي ان يتم شراء جزءا مهمًا من هذه الاسهم من قبل شريحة واسعة من المودعين من حساباتهم المصرفية ، فتكون الحصيلة استبدال الودائع باصول حقيقية و تنخفض بالنتيجة ميزانيات المصارف بالمبلغ المقابل. و للتذكير، ان خطة الحكومة الاصلاحية للكهرباء في 2003 استندت الى خصخصة مؤسسة كهرباء لبنان.
أما الاسهم التي يتم شراؤها من حسابات جديدة و بتحويلات من الخارج ستوفر دخلا بالدولار لتفذية المقابل للودائع المتبقية بالدولار في المصارف. ان من لا يرغب شراء الاسهم الجديدة فتبقى ودائعه في المصارف و لكن سيكون مقابلها الان اصول نقدية بالعملة الصعبة، و لكن على اساس نسبي بقدر ما يتم المشاركة من المستثمرين المقيمين و غير المقيمين بهذه الاسهم الجديدة.

هذا يعني ان الدولة لا تٌفرط بموارد القطاع العام و انما تنتقل ملكيته الى المواطن مع الحفاظ على توزيع عادل لهذه الموارد من خلال الحد من الملكية الفردية لكي يستفيد منها شريحة واسعة من المواطنين . أي ان الودائع الغير سائلة المتبقية ستستبدل باسهم حقيقية مصدرها اصول للدولة.

النتيجة هي اعادة القيمة الحقيقية و النقدية للودائع التي كانت هالكة في مصرف لبنان فتُصبح مُكونة من النقد الاجنبي و ما تبقى سيكون مزيج من الاسهم و الودائع ذات الاستحقاق لأجل. من النقد الاجنبي و الاصول الحقيقية. أما من ليس له ودائع فسيستفيد من الاصلاح و تحسين ادارة الاقتصاد و استعادة نموه و فرص العمل. و من يعارض الخصخصة كالشركات الاستشارية الاجنبية تستهدف الاستمرار في الاعتماد على التمويل الخارجي و حذف الودائع على الرغم من مخاطرهما.

وتُقدم الحجة ضد الخصخصة ان القطاع العام هو ملك للجميع و ليس لآصحاب الودائع فقط. فالرد ان ادارة القطاع العام ادت الى افلاس الجميع الغني و الفقير و من يملك ودائع او يفتقدها. أن الحلول البديلة المقترحة هي ان تستمر الدولة بالادارة الفاشلة لمؤسسات القطاع العام او سلب ودائع المواطن. ان الخصصة و تعويض الودائع هي ألامثل. كما ان الخصخصة تؤدي الى تحسين اداء الاقتصاد و رفع مستوى معيشة جميع فئات الشعب اللبناني. و من يعتقد ان بيع مؤسسات الدولة في الوضع الحالي سينتج عنها دخل زهيد، فهذا تحليل خاطىء، كون ان الاصول الحقيقية تُقيم على اساس امكانية الاداء المستقبلية.
ان حسابات المصارف و مصرف لبنان سوف تتعدل لتعكس هذه المعاملات: فستنخض الودائع في المصارف و ما يقابلها من اصول المصارف في مصرف لبنان بقدر ما يتم شاراء الشركات الحديثة من الودائع المجمدة. اما ميزانية مصرف لبنان فستنخض بمقدار 14 مليار دولار الموازية ، اضافة الى مدى التعويض عن الودائع بالدولار المتبقية في المصارف من خلال الخصخصة.و لكي لا تتعرض المصارف لضغوط السحب النقدي من الودائع المتبقية لديها في البداية فتقوم بجدولة الودائع على اساس رزنامة متعددة الاجال.

اما الاقتراحات السابقة التي دعت الى انشاء صندوق سيادي ليحوي مؤسسات الدولة لكي يعوض من ارباحه عن الودائع فهو اقتراح عقيم لان ادارته تبقى بيد الدولة الغير مؤهلة، و التعويض سيستغرق اجيالا.

و ختاما، و فيما يخص الودائع بالليرة فيقابلها ضمانات من خلال القروض المضمونة و سندات الدولة و لا بد من اخضاعها لجدولة واضحة. ان حل مشكلة الودائع و توفر السيولة (اضافة الى الاصلاحات الاخرى) اصبحا ضروريتين لاعادة الثقة و دعم النمو الاقتصادي. و من المتوقع ان حل ازمة مجمل الودائع ستكون العمود الفقري للاصلاح و اعادة الثقة.

الدكتور منير راشد رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية

الدكتور منير راشد هو رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية. استاذ محاضر في الجامعة الأمريكية في بيروت وخبير اقتصادي سابق في صندوق النقد الدولي في واشنطن العاصمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى