في اجتماع عُقد منذ عام في وزارة التعليم العالي حيث كنت امثل جامعتي، ألقى احد رجال الأعمال في لبنان خطابًا توجيهًيا قائلا.
اننا لا نبحث عن المزيد من الخريجين المرشحين لسوق العمل الذين يأتون بأفكار معروفة أكاديميا، ولكننا نبحث عن أولئك الذين يفاجؤونا ويغرونا من خلال الإبداع والقدرة على معالجة مشاكل جديدة يتوجب لها حلول جديدة خلاقة.
في هذا السياق، وبالإضافة إلى الأزمة العامة التي تعيشها البلاد و التي تفاقمت بعد انهيار الليرة اللبنانية، يمكن الكشف عن سبب إضافي للبطالة خاصة عند الشباب الخريجين، بالرغم من امكانية القدوم بجودة الملف و السيرة الذاتية.
يسلط تصريح ارباب العمل الضوء على فجوة كبيرة بين ما يتعلمه طلابنا في الجامعات و معاهد الدراسات العليا من ناحية، والحاجة الفعلية لسوق العمل في الوقت الحاضر من ناحية أخرى. هذا يعني أن توقعات أصحاب العمل تتجاوز الدرجات الأكاديمية التي يتم الحصول عليها حاليًا، مع التأكيد على شرط المُرشحين الماهرين الجاهزين للعمل.
طبعا هذا المنحى يطبق على نطاق اوسع في ظل الازمة الحالية خاصة بالنسبة للذين تغريهم الهجرة. اي انهم سوف يواجهون تحديات اكبر في بلاد الاغتراب.
من الواضح أن هذا التحذير يكمن وراء حالة من عدم الاستقرار الوظيفي التي كانت سائدة طوال العقد الماضي، ليس فقط في لبنان ولكن في جميع أنحاء العالم و التي كانت تستدعي التحضير لمعالجتها. و لكن بالرغم من ذلك تواصل الجامعات تخريج أعداد كبيرة من المرشحين الشباب لسوق العمل بصرف النظر عن الوضع الحرج السائد الذي يستدعي بل و يفرض على الوسط الأكاديمي مقاربة نوعية جديدة.
أحد جوانب الأزمة هو العائد على الاستثمار(Return on Investment) ROI الذي
تم تخفيضه إلى حد كبير مع تزايد عدد الأكاديميين المُتخرجين، فلا تزال توقعات الحصول على شهادات جامعية مقابل العائد على الاستثمار مهمة في بلدان الجنوب (الدول النامية وكذلك دول العالم الثالث) على سبيل المثال منطقة الشرق الأوسط. على العكس من ذلك في البلدان المتقدمة بالشمال، حيث تكون نسبة الخريجين مرتفعة بالنسبة للسكان، فإن العائد على الاستثمار منخفض جدًا ولا يتجاوز ١٠٪. في الواقع بهذه البلدان التي تزداد فيها الدرجات الجامعية “الكلاسيكية” الاكثر شيوعًا، والتي ينتظر منها إلى حد كبير الحصول على وظائف بأجر مرتفع.
الوضع في لبنان مختلف نوعًا ما، ولا يمكن إدراجه ضمن التقسيم جنوب / شمال. حيث تعرض بلادنا ميزة غير شائعة تتمثل في وجود أكثر من ٤٠ جامعة تُنتج ما معدله ٢٠٠٠٠ خريج كل عام، وفيما يتعلق باختصاصات الطب والهندسة و تلك المماثلة التي تعتبرها الأسر اللبنانية تخصصات مُعتبرة للغاية ـ وهو أمر مبالغ فيه ـ فقد صارت هذه الأيام مُنخفضة العائد على الاستثمار. والسبب هو أن نسبة “الأطباء أو المهندسين / السكان” مُرتفعة بشكل كبير خاصة في المدن والضواحي اللبنانية الكبرى.
ما يظهر من هذه المقاربة هو أن اللبناني يعطي التقدير لاسباب غير موضوعية لما يسمى بالمؤهلات العليا. عند هذه النقطة، من المناسب النظر في القيمة الفعلية للدرجات الجامعية في سياق مُتطلبات سوق العمل من ناحية، وتطوير المهارات الفردية للمُرشح من ناحية أخرى.
من خلال مسح للبيانات والتعليقات الموجودة (المعلومات المتاحة والشائعة على شبكة الإنترنت)، يبدو أن هناك علاقة ضعيفة بين التعليم المُكتسب أكاديمياً (والشهادة الناتجة) وشغل الوظائف بنجاح على المدى الطويل اي تلك التي تتجاوز فترة التدريب القصيرة. على العكس من ذلك، توجد علاقة أفضل بين المهارات / الذكاء والأداء الوظيفي.
من هنا نصل إلى المشكلة التي أثيرت في عنوان هذا المقال حول قابلية التوظيف والمهارات المرنة التي تستهدف أجيال الباحثين الجدد عن عمل.
إن المسألة تدور حول قابلية التوظيف التي تنقسم فعليًا إلى الوظيفة وقدرة من يجري توظيفهم.
اذا من أجل تحقيق التوازن بين كلا الجزأين، هناك حاجة إلى مهارات إضافية.
يوضح التحليل الظاهر على نطاق واسع؛ التقييمات متعددة المستويات المُتعلقة بتفرد الطبقة الاجتماعية (العالية والمتوسطة والمنخفضة)، والدخل المتنوع للغاية، وكل ذلك يؤدي إلى اختيار منبع عبارة عن (جامعات كبيرة) بتكاليف وحدات ائتمانية باهظة اي حوالي ال٥٠٠$ مقابل الجامعات الاصغر ذات تكلفة وحدات ائتمان مخفضة اي ١٠٠$ دولار كحد ادنى. ومع ذلك ولحسن الحظ، تختار بعض الجامعات استخدام معايير الجدارة لتسجيل الطلاب وتقديم المساعدات المالية والمنح الدراسية.
الاستثناء هو الجامعة اللبنانية (الحكومية) العامة والمُتاحة دون رسوم، ولكن لديها عدد محدود من المناصب للطلاب.
لكن المشكلة ليست فقط على هذا المستوى. لان هناك جانب يتعلق بسياسة تحتاج إلى الاعتماد من قبل جميع الأكاديميين لتوفير قيمة مُضافة لتعليمهم، أود أن أشير هنا إلى تعليم المهارات الشخصية للطلاب، فلا يُرجح أن تثير السيرة الذاتية للمرشح إعجاب مسؤولي الموارد البشرية إلا إذا قدم المُرشح للوظيفة دليلًا كبيرًا على امتلاكه المهارات المرنة مثل: المواقف الإيجابية، التواصل غير اللفظي، لغة الجسد اي كيفية الوقوف والتنقل والظهور والرؤية، بالإضافة إلى القدرة على الرد على الأسئلة التي يمكن أن تكون خارج المجال التعليمي الذي اكتسبه. وهذا يشكل الاختلافات الرئيسية بين ما تنتجه الجامعات وما يبحث عنه أصحاب العمل في المرشحين. بشكل أكثر وضوحًا، يسعى الأخير إلى توظيف مرشحين يتمتعون بمستويات عالية من الذكاء العاطفي، يتصفون بالمرونة والتعاطف والنزاهة والعقل المنفتح، ونادراً ما يتم الاهتمام بهذه المؤهلات في الجامعات.
أيضًا في سياق التكنولوجيا المتطورة باستمرار وقوة أجهزة الكمبيوتر، و التعليم عن بعد مع الأفق المتوقع من تحول كبير نحو الذكاء الاصطناعي، سيتم تنفيذ العديد من المهام عن طريق الآلات التي تديرها أجهزة الكمبيوتر العالية الأداء. وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى تعزيز أهمية المهارات الشخصية لدى المرشحين؛ وغني عن القول أن تلك المهارات لا يمكن للآلات الوصول إليها.
وبهدف رعاية مثل هذه المؤهلات، يعتبر أرباب العمل من الجيل الجديد مثل GAFA وهي (اختصار Google و Apple و Facebook و Amazon) والتي تعد أكثر قوة من الناحية المالية من بعض الدول، يعتبر هؤلاء القدرة المميزة على التعلم (قابلية التعلم) مؤشر رئيسي على قدرة الفرد على امتلاك المهارات الشخصية، وبالتالي من القدرة على أداء الوظيفة.
وهو ما يجعل GAFA تمول إلى حد كبير برامج التشغيل بمليارات الدولارات الأمريكية، والتي تهدف إلى تدريب الموظفين على هذه الرؤية، ومن المرجح أن تؤدي توقعاتهم بتوظيف أشخاص ذوي عقول منفتحة، قادرين على زيادة عائد الاستثمار.
من هنا على الجامعات انتهاز الفرصة المتاحة، والمساعدة على تلبية المتطلبات والتغيرات المتزايدة في سوق العمل – خاصةً عند التعامل مع البعد الجديد للبيانات الضخمةBig Data والذكاء الاصطناعي AI والذكاء العام الاصطناعي AGI، حيث يواجه العديد من المديرين صعوبات عند توليهم مناصب قيادية لأن هذه الوظائف يتم شغلها دون تحضير أوليّ لاكتساب المهارات اللازمة والانفتاح الكافي للقيادة.
عامل اخر يمكن الجامعة من إيصال الطالب الى سوق العمل بطريقة مرنة و هو منحى الجامعة الريادية حيث تتبنى الجامعةالبدء ببناء شركة تستثمر فيها البحوث العلمية فيها و ذلك بمشاركة الصناعيين حولها.
إذا تم العمل للوصول الى مثل هذه المتطلبات في الجامعة، سيتم إثراء الشركات بموظفين لديهم إمكانات ذقيادية عندما ياتي دورهم. و هذا الدور ات، لا محالة.
ختاما اود التنويه بالخطوة البناءة التي قام بها الدكتور بيار خوري ناشر هذا الموقع، بمبادرة بناء موقع إلكتروني من نوع جديد : “ليس بالشهادة وحدها يحيا الشباب” حيث يقدم خبراته الاكاديمية و مهاراته لخدمة الجيل الطالع من الخريجين.