خمسون لبنان والصين (الجزء الثالث): آفاق العلاقات اللبنانية الصينية وروحية طريق الحرير| بقلم قاسم طفيلي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
من البديهي القول ان استمرار العلاقات اللبنانية الصينية بل تطورها على امتداد العقود الخمسة الماضية يؤشر على مدى متانة واهلية هذه العلاقات للانتقال الى مساحات ومستويات جديدة. وإذ يحتفل البلدين والشعبين هذه السنة باليوبيل الذهبي لتأسيس هذه العلاقات يجب ان نتذكر ان هذه العلاقات والصلات بين الشعبين تمتد على ما توثق كتب التاريخ الى الألاف السنين كأحد مقاصد ومحطات طريق الحرير القديم. قد لا من المناسب العودة لاستعراض كافة مراحل ومحطات تطور علاقات لبنان بالصين, لكن يجب ان نشير الى بعض دلالات ما فعله طبيب الشعب اللبناني الاميركي الصيني جورج حاتم في ثلاثينيات القرن الماضي(1933)،الذي اكتشف ليس فقط طيبة وصداقة الشعب الصيني بل انه اختار عدم العودة الى اميركا في حينهاليمضي اكثر من خمسة وخمسون عاما حتى وفاته مجسدا قمة الالتزام الإنساني بمهنته ورسالته بل بالتزامه وانخراطه الفعال في ثورة الشعب الصيني بقيادة الحزب الشيوعي. عندما نتذكر جورج حاتم وتجربته المضيئة يحضرني السؤال الدائم الذي ارغب في طرحه على كل الأصدقاء والمعارف اللذين زاروا ويزورون الصين وهم كثر خلال السنوات القليلة الماضية. ليس مفاجأ ان يكون الجواب من الغالبية بل من الجميع تقريباً انهم يرغبون العودة الى الصين للتعرف اكثر على هذا البلد والتواصل مع هذا الشعب الصديق وانهم قد انبهروا بمدى التقدم الذي شاهدوه.
ولكي لا يكون احتفالنا بالذكرى السعيدة لتأسيس علاقات الصداقة بين لبنان والصين مجرد استعراض واستذكار لمحطات هذه العلاقة (وهو امر ضروري ومهم) نرى انه من الملح على كل المعنيين الصادقين والراغبين في تعزيز هذه العلاقة محاولة استكشاف المحاور والمرتكزات التي يمكن البناء عليها تأسيسًا وتخطيطًا للخمسين سنة القادمة من عمر العلاقات اللبنانية الصينية التي تمتلك عناصر كثيرة تؤهلها للانتقال الى مستويات متقدمة.
لقد عبّر الجانب الصيني دائمًا عن استعداده للعمل مع الجانب اللبناني لرفع العلاقات الثنائية الى مستويات اعلى وقد شكل اعتبار الصين ان لبنان يمكن ان يلعب دورًا محوريًا كشريك مهم للصين في اطار مبادرة الحزام والطريق فرصة متجددة لا بد من البناء عليها. وقد جاء توقيع الحكومتين اللبنانية والصينية عام 2017 مذكرة تفاهم في شأن التعاون لبناء الحزام الاقتصادي البري وطريق الحرير البحري للقرن ال21 كإطار عام للتعاون المشترك وهو ما يزال ينتظر التوصل الى اتفاقات تفصيلية تطبيقية. ان جوهراستفادة لبنان من مبادرة الحزام والطريق يقع في قدرة لبنان على استكشاف نقاط التقاطع بين خططه للتنمية (اذا ومتى وجدت) وبين العناوين والمحاور العامة لتلك المبادرة. وليس سرًا القول ان لبنان لم يستفيد او يستثمرهذه المبادرة بالشكل المنشود حتى الآن. واذا كانت أسباب هذا القصور لا تقتصر فقط على غياب خطة وطنية واضحة للتنمية بالإضافة الى ان بعضها يتصل بالتردد والتخوف الغير مبرر لدى عدد كبير من المعنيين, فان السؤال الذي يطرح نفسه ليس فقط على المسؤولين الرسميين بل على كل العاملين في الشأن العام لاسيما الجمعيات والشخصيات المواكبة للتعاون المشترك بين البلدين:كيف السبيل لتطوير مذكرة التفاهم الموقعة بين لبنان والصين في اطار مبادرة الحزام والطريق و ما هي آفاق المشاريع المشتركة التي يمكن التركيز عليها خصوصًا في ظل الانهيار الاقتصادي الحاصل؟
لقد اشارت المذكرة الىان مجالات التعاون ذات الاهتمام المشترك تشمل:
1- النقل واللوجستيات والبنى التحتية.
2- الاستثمار والتجارة.
3- الطاقة والطاقة المتجدّدة.
4- التبادل الثقافي والتبادل بين الشعوب، الصحة والرياضة.
كما حددت نفس المذكرة سبل وآليات التعاون المشترك بما فيها ان يقوم الجانبان “بصياغة خطة عمل للتعاون الثنائي والتشاور وابرام قائمة مشاريع مشتركة وتنفيذ الاعمال المرتبطة بهذه الخطة المشتركة وقائمة المشاريع”.
اذا نحن امام اطار أكثر من مناسب لكي يلحق لبنان بقطار تنمية طريق الحرير. لقد استفادت وتستفيد عشرات البلدان لا سيما الدول العربية من مصر والسعودية إلى الامارات الى تونس والجزائر والمغرب من مفاعيل وايجابيات مبادرة الحزام والطريق ولقد أثبتت التجربة بالأرقام ان الصين لا تتوخى زرع الفخاخ للديون ولا تضع شروطا وتضمر غايات سياسية كما اعتدنا من بعض الدول لاسيما الغربية منها.
بل انه وللأمانة، فإن الصين قد بادرت مخلصة لتقديم العديد من المبادرات لتنفيذ ما أمكن بما التزمت به ضمن اتفاقية الإطار اياها.
منذ العام ٢٠٠٦ شاركت 18 دفعة من قوات حفظ السلام الصينية في عمليات حفظ السلام للأمم المتحدة في لبنان بما فيها الدور التنموي الذي تلعبه في نطاق عملها. وقد اقرنت الصين ذلك بمواصلة مساعدة الجيش اللبناني لتقوية قدراته وكفاءاته ودعم جهوده في صيانة سيادة الدولة واستقلالها ومكافحة الإرهاب.
الى ذلك لم تبخل الصين في تقديم المساعدات العينية والمالية للمساعدة في تحمل أعباء المهجرين السوريين واللاجئين الفلسطينيين. إضافة إلى ذلك وكثمرة مباشرة لمبادرة الحزام والطريق لقد تبرعت مشكورة بإعمار وتجهيز مبنيين عصريين للمعهد الوطني العالي للموسيقى (الكونسرفاتوار) وهما قيد الإنجاز رغم كل الظروف. على أن ابرز ما قامت به الصين تجاه لبنان خلال السنتين الماضيتين كان المساعدات الكريمة في مجال مواجهة ومكافحة جائحة الكورونا حيث قدمت أدوات الحماية والتشخيص والمكافحة حيث جرى التبرع بحوالى نصف مليون لقاح.
بالإضافة إلى ذلك قدمت الصين الاستشارات والنصائح للطقم الطبي بما يعزز قدراته لمواجهة التحديات الكثيرة في هذا القطاع. ولقد دعت لبنان للانخراط في طرق الحرير الصحي بما يمكن ان يسمح للبنان إضافيًا.
إضافة الى ذلك لقد وفت الصين بالتزامها لتنشيط التواصل بين الشعبين بحيث استضافت خلال الأعوام القليلة الماضية المئات من المسؤولين وافراد الأحزاب والجمعيات والأساتذة والطلاب والمثقفين والفنانين والرياضيين وغيرهم وهو امر ندعو لاستمراره وتفعيل الاستفادة منه خصوصًا الدورات التدريبية المتخصصة.
ان النقاش المتبادل والمفتعل في غالب الأحيان والذي شهدناه بخصوص “التوجه شرقا ” أو التوجس من “اضاعة وجه لبنان الغربي” للبنان” لا يفيد ولا يخدم اية محاولات لتحقيق إنجازات تنموية محددة. نحن لسنا بحاجة للبحث في جنس الملائكة في هذا المجال. أذا كان لبنان لا يزاليبتغي لعب دور “همزة الوصل” بين الشرق والغرب فان تطوير العلاقات مع الصين يجب ان لا يكون مدارنقاش او مزايدة سياسية. هناك اتفاقية اطار واضحة وامامنا صديق حقيقي للبنان يعبر عن استعداده للمساعدة.
للتذكير فقط, لقد زار لبنان العديد من الوفود الصينية الرسمية والاقتصادية تحديدًا بين العامين 2018 و 2019 ثم تواصلت المحاولات خلال جائحة لكورونا ولا تزال.
المشكلة كانت دومًا في عدم استعداد وجهوزية لبنان وقوانينه وظروفه لالتقاط الفرص الاستثمارية المتاحة.
وبالعودة إلى السؤال الذي طرحناه أعلاه بخصوص فرص احداث تقدم لتنفيذ الاتفاقية المشتركة، لا نزال نعتقد ان لبنان الرسمي والشعبي (بما هو قطاعاته الاقتصادية ومؤسساته الاجتماعية وهيئاته المدنية) ورغم الظروف المثبطة من كل حدب وصوب يكمن ان يقوموا بمبادرات متنوعة لتحقيق هذا تقدم. واذا كان المجال لا يتسع لنقاش واستعراض اشكال وتفاصيل هذه المبادرات وهو ما يمكن تناوله في فرصة أخرى, يمكن الإشارة الى محوران اساسيان يجب التركيز عليهما: التصدير الى السوق الصينية والتعاون في مجال الطاقة خصوصًا الطاقة المتجددة. ومن البديهي القول ان ذلك يرتب علينا جميعًا واجبات محددة يجب نقاشها.
عاشت الذكرى الخمسين لتأسيس العلاقات اللبنانية الصينية واسمح لنفسي أن اغتنم هذه المناسبة لأهنئ الأصدقاء الصينيين بالعيد ال72 لتأسيس جمهورية الصين الشعبية وبالذكرى 100 لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني.
لمتابعة باقي أجزاء السلسلة : اضغط هنا