كيف تجاوز الجيش الإسرائيلي الاستراتيجية العليا للدولة العبرية باحتلاله كامل سيناء في حرب يونيو67؟
لقد اختار الكاتب المصري القدير الأستاذ "مجدى منصور" فقرات فارقة من الوثائق الإسرائيلية عن حرب يونيو(حزيران 67) التي نشرها الكاتب الكبير الأستاذ "محمد حسنين هيكل"(رحمه الله) في سلسلة مقالات بمجلة (وجهات نظر) والتي تم جمعها في كتاب بعد ذلك بعنوان (عام من الأزمات). والجدير بالذكر هنا أن الأستاذ منصور هو أحد تلامذة الأستاذ هيكل رحمه الله.
إن نقاش أي حدث ليس وقتاً ضائعاً نبدده بل هو أمر واجب فحصه ودراسته واستلهام دروسه وعبره … وعلى هذا قررت أن تكون الوثائق الإسرائيلية التي نشرها الأستاذ محمد حسنين هيكل(رحمه الله) في مرجعه القيم (عام من الأزمات) هي التي تجيب على الأسئلة الحائرة لدى بعض «الجاهلين» أو «الشامتين» أو «الكارهين». وابدأ من اليوم بوضع مساحة مركزة من الوثائق على نقطة كي تقوم بكشفها وتظهر معالمها.
جنون الجنرالات!
كان النجاح الإسرائيلي في سيناء طوال المرحلة الأولى للعمليات ظاهراً وأكيداً، ومتوافقاً بالحركة (التكتيك) مع مطالب الاستراتيجية الإسرائيلية ومطالب الاستراتيجية العليا للدولة اليهودية كما وضعها المؤسسون الأول للمشروع الصهيوني.
لكنه عند لحظة النجاح بالضبط وقع التجاوز ، لأن النجاح بهذه السهولة جاء معه بغرور القوة ، وغرور القوة أغوى العسكريين وأولهم «ديان» – على الخروج عن السياق وعلى النص.
ولم يكن وصول القوات الإسرائيلية إلى قناة السويس مُقرراً أو مطلوباً في الخطة الأصلية للعمليات كما صدرت بها الأوامر مساء ٤ – ٥ يونيو ١٩٦٧ بل إن الابتعاد عن قناة السويس وتجنبها تماما كان هو المطلوب ودواعيه (نقلا عن مذكرة رسمية أشار إليها الدكتور «آفى شلايم» في دراسته الكبيرة عن صناعة القرار في إسرائيل صفحة ٤٣ ٢)
كما يلي:
– إن الوصول إلى ضفة القناة يكلف الجيش الإسرائيلي بحماية خطوط مواصلات طويلة لابد أن تظل مفتوحة باستمرار لضرورات إمداد وتموين الخط الأول من القوات على حافة الماء.
– أن الوقوف على ضفة القناة سوف يلزم الجيش الإسرائيلي بأسلوب الدفاع، وهو أسلوب في الحرب يأخذ من هذا الجيش أكبر مزاياه وهي سرعة الحركة.
– إن قناة السويس ممر مائي دولي، واقتراب إسرائيل منه قد يحوله إلى منطقة عمليات عسكرية، وذلك يصبح خطرا على الملاحة.
– أنه في حالة وصول القوات الإسرائيلية إلى قناة السويس فإن مصر سوف تبادر بإغلاقها بادعاء الحرص على سلامة الملاحة، وتقع المسئولية على إسرائيل.
– إن إغلاق قناة السويس قد يكون استقزازاً للاتحاد السوفيتي يدعوه إلى التدخل بأكثر مما ينوي وأبعد مما يريد.
والذى جرى أنه مع النجاح غير المتوقع، ومع الغرور، ومع الغواية – فإن الخروج عن سياق الخطة ونصها ترك نفسه ينساق إلى قرارات لا علاقة لها بالخطة الأصلية.
و مثلا فأنه قبل ظهر يوم الأربعاء ٧ يونيو وصلت إلى قيادة القوات إشارة من دورية إسرائيلية متقدمة تقول:
«أنها وصلت إلى ضفة قناة السويس، وهى تقف الآن عند حافة مياهها».
وعرُضت الإشارة في البداية على رئيس هيئة أركان الحرب الجنرال «أسحاق رابين»، وكان تقديره طبقا لما علق به على الإشارة:
«أن وصول الدوريات الإسرائيلية إلى ضفة قناة السويس نجاح فائق»، وهو يتساءل: «هل تتمسك هذه القوات بمواقعها أم تنسحب؟»
وكان ظاهرا أن ظناً ساوره بأن «بقاء القوات قد يكون فيه تعزيز لقوة «الموقف التفاوضي الإسرائيلي بعد انتهاء المعارك»!
وعندما وصلت الإشارة إلى وزير الدفاع الجنرال «ديان» كان تعليقه الأول عليها حازماً إذ قرر أن:
«وقوف القوات على ضفة القناة والتمسك بها مخالف للخطة ومتعارض مع السياسات التي قام عليها بنيانها».
وعلى هذا الأساس أصدر وزير الدفاع أمراً «للتنفيذ العاجل» موجها إلى قائد القوات التي وصلت إلى ضفة قناة السويس، يقول فيه:
«ابتعد فوراً عن ضفة القناة واسحب قوتك بعيداً ، والزم التعليمات السابقة التي تحدد مهمتك».
وتم تنفيذ أمر وزير الدفاع.
لكنه لم تمض غير ساعات حتى أصدر «ديان» نفسه أمراً لقوة لواء كامل أن تتقدم على نفس الخطى التي مشت عليها دورية الصباح، وتكون دورية الصباح هي «المرشد» الذى يقود «لواء العصر» إلى حافة مياه القناة.
وكان ذلك تغييرا جوهرياً في الخطة تجاوز به السلاح حدوده وأعطى نفسه سلطة القرار السياسي. ولم يكن رئيس الوزراء(اشكول) ولا مجلس الوزراء على علم بأن القوات الإسرائيلية الآن وعلى خلاف مع الخطة قد وصلت إلى قناة السويس.
وروى لي الجنرال «أندريه بوفر» في لقائنا يوم ٤ سبتمبر 1975 ما نصه:
«إنني سألت الجنرال «ديان» لماذا أمر قواته – خلافاً للخطة بأن تعود إلى ضفة قناة السويس وتتوقف هناك، وتحفر خنادقها وتتحصن؟- ولم أجد عنده رداً مقنعاً.
ولقد أحسست من ردوده أنه يتهرب من مناقشة قرار ثبت فيما بعد أنه خطأ على مستوى الاستراتيجية الإسرائيلية، ذلك أنه بالوقوف على خط الماء ألزم الجيش الإسرائيلي بسياسة دفاع ثابت هي ضد عقيدته القتالية .
ثم إن وقوفه بهذا الشكل على خط الماء أصبح استفزازاً يستحيل قبوله بالنسبة للمصريين، والمؤكد أنهم سوف يجدون في أنفسهم «شجاعة تفرض نفسها عليهم فرضاً وتدعوهم لعبور القناة إلى الناحية الأخرى بأي ثمن».
واستكمل الجنرال «بوفر» روايته:
«قال لي «ديان» بعد مناقشة طويلة، ولم يكن ما قاله في معرض الجد:
ربما أنى أردت استعادة ذكرى الأيام القديمة حينما قُمنا بإحتلال قناة السويس ضمن خطتنا المشتركة سنة ١٩٥٦».
(وكان الجنرال «بوفر» في سنة ١٩٥٦ هو قائد القوات الفرنسية البرية التي نزلت في بورسعيد، وكان أيضاً نائب القائد العام (البريطاني) في مؤامرة السويس، وبالتالي فإنه كان مطلعاً على دخائل السياسة قدر اطلاعه على خطة العمليات).
واستطرد الجنرال «بوفر» في حديثنا ( سبتمبر ١٩٧٥):
«حاول ديان أن يراوغ من الإجابة وأن ينسب «تجاوزه» إلى «حنينه للماضي» – مع أن اعتقادي أن ما قاله لي ديان فيه شيء من الصحة، فقد ساقه syndrome السويس (تداعى الوقائع المستعادة) أن يرسخ لنفسه صورة المنتصر في سيناء سنة ١٩٥٦، وقد وجدت نفسى (الكلام للجنرال «بوفر) مضطراً أن أذكره بأنه حين وصل بقواته إلى قناة السويس سنة ١٩٥٦ فإنه فعل ذلك ضمن خطة نزولنا في بورسعيد، وعزمنا على احتلال كامل منطقة القناة، وذلك لم يفرض على الجيش المصري أن يخلى سيناء دون قتال فحسب، وإنما واجهه أيضا بجدار عازل أمامه من قوات الحلفاء يحجزه عن سيناء!
وهكذا فإن استيلاء الجنرالات على القرار في إسرائيل حشر السياسة في ماسورة بندقية!
الوثائق الإسرائيلية – الأستاذ – محمد حسنين هيكل (رحمه الله)
لمن فاتته متابعة الجزء الأول :