الاحدثالصورة الكبيرة

سنة على اغتيال المدينة (٨) : عام على “بيروت-مونيوم” … نكبة لبنان الحديث !! | كتب د. محي الدين الشحيمي

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

انها الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت في 4 آب، اليوم الذي لم يغب عن البال والتاريخ الذي توقف عنده الزمن، لقد أدمت هذه الفاجعة القلوب وحرقت الأعصاب وشتت الأفكار نحو الحقيقة بين الشك واليقين، فكل الايام والشهور وكل السنين هي 4 أب، انه الحدث والذي اختزل وحجب وغلب كل معايير الوقت لصالحه .

هي كارثة هائلة بكل ما للكلمة من معنى، ادخلت البلاد في حالة متشعبة من الكآبة والاحباط، مخلفة احجام جمة من الدمار والخسائر المعنوية والمادية، بهستيرية اجتماعية غير موصوفة نتيجة لفقدان الارواح العزيزة على القلوب من الرفاق والأهل والأصدقاء وصولا الى موت مدينة واتشاحها بالسواد وهي بيروت التي لا ينطفئ قنديلها ولا يسكت ضجيجها .

لقد وقعت بيروت ضحية الخبث والاهمال والعجرفة والعنجهة وبفعل فاعل وجناية مرتكب مجرم وبغرور السنابل الفارغة من أصحاب القرار والمتسلطين والفاسدين، محولينها من بيروت أيقونة البحر المتوسط ولؤلؤة حوضه، من مدينة الحياة والثقافة والحضارة والعلم والفكر والاناقة والسياحة والسهر الى مدينة النيترات الى ” بيروتمونيوم “.

ان بيروت ليست مجرد عاصمة الجمهورية اللبنانية هي مدينة المدن وروح الدولة وعقلها وذكرها, ومرفأ بيروت أكثر وأكبر وأبعد من كونه ميناء هو كان وسيبقى وسيعود صلة الوصل وصاحب الدور المحوري والريادي، حيث أن لاستهداف بيروت من خلال مرفئها تأثيرات مختلفة ذات نسق استراتيجي وطموح ايديولوجي متشعب سواء على المجتمع بالدرجة الأولى والتطور الميداني والتنمية المستدامة بالاضافة لتأثيراته المباشرة على القطاعات الأساسية في الدولة من المالية والاقتصادية والتجارية بشكل كلي بمجالاتها المتعددة سواء أكانت الاجتماعية وما تتضمنه من ( الصحة، الثقافة، التعليم، الاسكان ) والبنى التحتية وما تشمله من ( النقل، الطاقة، المياه، والصرف الصحي، والخدمات البلدية ) الى الشق الانتاجي والمالي ك (التجارة والخدمات، الصناعة والتجارة ) بالاضافة وبشكل أهم مجموعة القطاعات المشتركة من ( الحوكمة، البيئة، وهيكليات الاستدامة المجتمعية ونوافذ احتوائها ) .

لا اؤمن بالصدف ولكن بالقدر والذي أعطى بيروت ومنحها هذه الأهمية الاستراتيجية والمكانة الجيوبوليتيكية، بذهبية موقعها الجغرافي وفرادته وقيمته النفيسة وتقديره المعياري المرموق جدا، ولرمزيتها كصلة وصل ومحجة لا غنى عنها، فربما تكون قد دفعت ثمن هذا القدر انما بمساهمة مترفيها والقياديين الذين توالوا بحكمهم للبلد وأكثروا فيها العبث والفساد والفوضى .

لقد تميز مرفأ بيروت بدوره المركزي المحوري سواء في لبنان أو في المنطقة، حيث قد لعب دورا تاريخيا لامعا في الاقتصاد الاقليمي، فهو وبفضل الموقع الاستراتيجي الرباني منذ أن دشن في نهاية القرن التاسع عشر كان المدخل الرئيسي لحركة التجارة الأممية نحو العالم العربي بالاضافة للمسودات والمخططات الجادة للوصول لأقصى الأدوار الطموحة والمرجوة ولتعزيز هذا الدور من خلال تطويره وتنميته بكل الوسائل المتاحة وربطته بشبكة نقل مواصلات مع البلاد العربية، لذلك يعد انفجار مرفأ بيروت ضربة قوية ومفصلية وقاطعة لكل هذه الطموحات والمخططات بمحاولة لاتمام عملية خروجه من شبكة المنافسة الشديدة بين مرافئ الحوض الشرقي للمتوسط وجزءا من التزاحم الاستراتيجي والتنافس الجيوسياسي لما يعرف بحر “الموانئ ” .

حيث تغزو المنطقة خططا عديدة وتشهد بالتوازي منافسات شرسة وتكتيكات غير معهودة والساحة اللبنانية “لبيسة ” دائما وللأسف تبقى الأكثر ضعفا وهشاشة بكفاءة سياسييها، فالروس لديهم حلمهم الدائم للحصول على موقع دائم وقدم لهم في المياه الدافئة، والصينيون والذين يجيدون باحتراف التكتيك الاستراتيجي البطيئ والبعيد الافق مع الأولوية الدائمة للعلاقات الاقتصادية والتجارة الدولية، حيث يفرض طريق الحرير والذي يربط بين الصين والقارة العجوز نفسه كمحور لكل هذه المتغيرات باستثماراته وبنيته التحتية الخاصة، ولدينا الجانب الايراني الساعي بشكل حثيث لفرض نفسه كقوة اقليمية مؤثرة بالتزامن مع الحراك التركي النشط لانتزاع دور فاعل ومتجدد على مستوى المنطقة، كل ذلك بالترافق مع الجهود الاميركية والفرنسية والاوروبية للحفاظ على الاستقرار ومواقع القوة والنفوذ في الشرق الاوسط بانتهاج التوازنات والسلوكيات المناسبة لتلك المرحلة الحساسة بالاشتراك مع الجهود العربية الموحدة وتقاطعاتها، فضمن هذا النطاق والسياق نضع الاحتدام المشهود في المنافسة على النفوذ في لبنان ومنطقة الشرق الاوسط .

ان التأثير الاقتصادي للانفجار ملحوظ على الصعيد الوطني بالرغم من التركيز الجغرافي، اضافة لتفاقم مواطن الضعف بهيكليتها الطويلة الأجل والتي تشمل سوء البنية التحتية، باختلالات ضخمة في الاقتصاد الكلي وتدهور المؤشرات الاجتماعية ناهيك من سوء الادارة المالية الفاقع .

لقد وقع الانفجار في المرفأ في خلال فترة كان لبنان يعاني فيها من كافة الصعوبات والتحديات بعصف أزمة مجنونة وغير معهودة، حيث يدفع الشعب اللبناني ولا سيما فئاته الأضعف ثمنا باهظا لهذه الازمات، مع ثقة متآكلة يوما بعد يوم في النظام السياسي والاقتصادي .

بالرغم من الصعوبات والسواد المحدق بنا، تتيح لنا هذه الازمة فرصة جدية لاعادة بناء لبنان بقواعد أسلم وثبات أفضل مسترشدة في ذلك بمبادئ الشفافية والشمولية والمساءلة والمسؤولية، ومن المفترض أن يستند هذا المسير على نحو فعال الىى اطار وتحوط نوعي للاصلاح, مقرون بخطط للتعافي واعادة الاعمار، مع عامل أساسي ومهم جدا وهي المصداقية تمهيدا لاسترجاع الثقة للفوز بالدعم التام والمساعدات والمنح الانمائية والدولية .

لقد أرادوا لبيروت الموت وهم لا يعرفون بأنها خالدة وهي اكسير للحياة، هي أيقونة العواصم العربية التي تنهض من تحت الردم والركام وكما في كل مرة، تحول بصبر رائحة الموت الى عطر للعروس في فرحتها، وتنسج من حزنها بهجة وقيامة وأمل ورجاء، حيث سيكون الذل للفاسدين والمرابين وأصحاب النيترات الحقيقيين العاجزين حتى بجحودهم وعهرهم .


لمن فاتته متابعة الأجزاء السابقة:

د. محي الدين الشحيمي، استاذ في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا

الدكتور محي الدين محمود الشحيمي، دكتوراه في القانون جامعة باريس اساس في فرنسا. عضو لجنة التحكيم في مدرسة البوليتكنيك في باريس. محاضر في كلية باريس للاعمال والدراسات العليا واستاذ زائر في جامعات ( باريس 2 _ اسطنبول _ فيينا ). خبير دستوري في المنظمة العربية للقانون الدستوري مستشار قانوني واستراتيجي للعديد من الشركات الاستشارية الكبرى والمؤسسات الحكومية الفرنسية كاتب معتمد في مجلة اسواق العرب ومجلة البيان والاقتصاد والاعمال ومجلة الامن وموقع الكلمة اونلاين . رئيس الهيئة التحكيمية للدراسات في منصة الملف الاستراتيجي وخبير معتمد في القانون لدى فرانس 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى