الملخص
يبدو أن إيران ستتنازل عن جميع مطالبها السابقة وفقًا لنص وثيقة جوزيف بوريل، وتكتفي بمطلب رفع الحصار عنها، الى جانب اخضاع برنامجها النووي لمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بالمقابل، تضغط واشنطن على خبراء الوكالة لوقف تحقيقهم الخاص بوجود آثار يورانيوم عالي التخصيب في ثلاث منشآت نووية لم تكشف عنها طهران مسبقًا، من ناحية أخرى، وكرد فعل على تجاهل دول الكتلة الخليجية من قبل واشنطن في هذه الصفقة المتوقع إلاعلان عنها في غضون الاسبوعين المقبلين، يخطط الامير محمد بن سلمان إلى إقامة استقبالًا حافلًا للرئيس الصيني شي جين بينج خلال زيارته المتوقعة الاسبوع المقبل الى المملكة العربية السعودية ، في مشهد هوليوودي أعلى مستوى مما كان عليه خلال إستقبال المملكة للرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب.
بعد قرابة ستة عشر شهرًا من مفاوضات فينا، قدم زعيم الدبلوماسية الاوروبية جوزيف بوريل نصًا نهائيًا لكسر الجمود في المحادثات بشأن إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني المعروف رسميًا “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وفقًا لصحيفة The Wall Street Journal فإن هذا النص يعد تنازلًا جديدًا ومهمًا لصالح طهران، يهدف إلى الإنهاء السريع لتحقيقٍ تُجريه الوكالة الدولية للطاقة الذرية متعلق بوجود آثار لمواد نووية عُثر عليها في ثلاث مواقع غير معلن عنها من قبل إيران في عام 2019. وهي النقطة الشائكة الرئيسية في المحادثات المستمرة لإحياء اتفاق عام 2015. يعتقد بوريل ان إيران ستوافق على صيغة النص الذي قدمه ووصفه “بصيغة نهائية” و”حزمة واحدة”، مقابل أن تضغط واشنطن والاطراف الاخرى على خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية لانهاء تحقيقهم قبل توقيع الاتفاقية، وان تكون إجابات إيران على اسئلة خبراء الوكالة بخصوص المواقع الثلاث فقط لحفظ ماء الوجه لموظفي الوكالة الدولية، باعتبارها وكالة مستقلة وليست طرفًا في الاتفاق.
من جانبها، قالت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية، نقلًا عن دبلوماسي إيراني كبير، إن إقتراح الإتحاد الأوروبي بإحياء الاتفاق النووي الايراني لعام 2015: “يمكن أن يكون مقبولًا إذا قدم تأكيدات” بشأن مطالب طهران الرئيسية، والمتمثلة في “حقوق ومصالح الشعب الإيراني ورفع العقوبات بشكل فعال ودائم” وفقًا للوزير أمير عبد اللهيان. وبحسب وكالة رويترز، فإن واشنطن مستعدة للتوصل لتوقيع الصفقة بسرعة على أساس صيغة بوريل، وَرَد ذلك على لسان المتحدث بإسم وزارة الخارجية الاميركية الذي وصف النص بأنه: “الاساس الافضل والوحيد للتوصل الى اتفاق”. مضيفًا، أن الكرة الان في ملعب طهران لإبداء جديتها في إحياء الاتفاقية، والالتزام بإخضاع برنامجها النووي كاملًا للمفتشين الدوليين وفقا لنص إتفاق 2015.
في إطار هذا المشهد، يبدو أن القيادة الايرانية باتت مقتنعة أن الوقت بدأ ينفذ مع اقتراب موعد إنتخابات التجديد النصفي للكونغرس الاميركي مع تأكيد معظم المؤشرات إحتمال عودة الجمهوريون الذين يعارضون هذه الصفقة، والفوز بأغلبية مقاعد الكونغرس، وأن إعادة إحياء الاتفاقية سيكون أكثر صوابًا، وبالتالي خفضت ايران من سقف مطالبها وحصرته في رفع العقوبات عنها بشكل فعال وسريع ومستقر، في حين، تخلت عن مطالبها السابقة وجوهرها الحصول على تعهد من واشنطن بمنع أي رئيس اميركي قادم من محاولة القيام بالغاء هذه الاتفاقية والعودة لنظام العقوبات على غرار ما فعله ترامب، الى جانب تنازلها أيضًا عن مطلب كانت مُصره عليه وهو إزالة الحرس الثوري الايراني عن قوائم الارهاب الاميركية. بالنظر الى قناعة طهران باستحالة تلبية هذه المطالب على إعتبار أن الصفقة هي تفاهم سياسي وليست معاهدة ملزمة قانونًا، من ناحية اخرى، ان هذه الشروط لم ترد في نص الاتفاقية السابقة لعام 2015.
في الواقع، فإن إعلان العودة لصيغة إتفاقية العمل الشاملة المشتركة والتي سبق وأن أعلن ترامب انسحابه منها من جانب واحد، سيصنفه حكام طهران في ميزان الانتصار السياسي على واشنطن وحلفائها من عدة محاور، من بين امور اخرى. أولًا، رفع الحصار بشكل كامل بما فيها صادرات النفط والغاز، يليها الافراج عن ملايين الدولارات المجمدة في البنوك الغربية، الامر الذي سيساعد في سرعة تعافي الاقتصاد الايراني. ثانيًا، يأتي هذا الاتفاق بمباركة روسية صينية وفقًا لما ورد على لسان المندوب الروسي في المفاوضات ميخائيل اوليانوف الذي حث في تغريدته الاطراف للاسراع بتوقيع الاتفاقية، وكلمة مندوب الصين في الامم المتحدة وانغ تشيون والتي دفعت بهذا الاتجاه.
ثالثًا، مع إعلان توقيع الاتفاقية برعاية دولية (روسيا، الصين، الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي)، فإن طهران تسحب مبررات إستمرار مهاجمة اسرائيل لمواقعها ومصالحها الحيوية على الاراضي العربية، الى جانب منشآتها النووية والتي ستصبح تحت تصرف هيئة الرقابة الدولية. رابعًا، استطاعت طهران إخراج برنامجها الصاروخي طويل المدى من صيغة الاتفاق وهذا يعطيها مساحة في تطوير قدراتها الصاروخية دون اعتراضات دولية. خامسًا، نجحت طهران في تغييب المطالب العربية بضرورة خروجها من الاراضي العربية التي تحتلها، وضمان عدم تدخلها في الشان الداخلي العربي.
بينما تسابق الادارة الاميركية الزمن للشروع في حملة ترويج إنجازات تسكن في ذاكرة الناخب الاميركي المُتهيئ للتوجه لصناديق اقتراع الكونغرس في نوفمبر القادم، فإن الاعلان عن وضع برنامج ايران النووي تحت الاقامة الجبرية سيقدمه الرئيس بايدن لجمهور الناخبين الاميركيين المتشددين تجاه نووي ايران بأنه انجاز كبير، وهو تصحيح لخطيئة كبيرة إرتكبها سلفه ترامب، كما ويُمكنه هذا الاتفاق ايضًا، من الترويج لطمأنة المواطن الاميركي الذي يئن تحت وطأة غلاء الاسعار وخاصة ارتفاع اسعار الطاقة، بإقتراب موعد عودة تدفق النفط والغاز الايراني الى الاسواق العالمية والاميركية، وبالتالي عودة اسعار الطاقة الى طبيعتها، من ناحية أخرى، يستطيع اقناع معظم أفراد الجالية اليهودية الاميركية- تُصوت في معظمها بشكل تقليدي لصالح الحزب الديموقراطي (70-75%)، أن منشآت ايران النووية تم إخراجها من قائمة مهددات الامن القومي الاسرائيلي، وباتت تحت سيطرة الاخيار- وفقًا لمصطلحات الرئيس الاسبق جورج بوش، لكسب اصواتهم وضمان تدفق ملايين الدولارات للحملة الانتخابية للحزب الديموقراطي.
عند هذه النقطة، يعتقد الرئيس بايدن أنه قادر على اقناع قادة اسرائيل بان إعادة احياء اتفاقية العمل الشاملة المشتركة مع طهران هو أفضل مسار يمكن انجازه في هذه المرحلة، وان حججه في ذلك ستكون حاضره في جوهر صيغة بوريل، ليس فقط تأكيده وضع منشآت طهران تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية فحسب، بل التجاهل عن عمد وإصرار مُسبق بعدم إدراج شرط إخراج طهران لقواتها شبه العسكرية من الاراضي العربية والزامها باحترام علاقاتها مع دول الخليج في صيغة الاتفاق، وأن هذه الصيغة ابقت الباب مفتوحًا للدفع بإتجاه استمرار توجس الدول الخليجية من نوايا ايران وقدراتها العسكرية، وبالتالي تعطي مبررًا لمزيد من الانظمة العربية في المنطقة لاعلان قبولها التعاون العسكري مع اسرائيل أو ما يسمى (التطبيع) تحت مببررات حماية أمنها من الخطر الايراني، وهذا هو جوهر الاستراتيجية الاميركية الجديدة في المنطقة، والتي سعت منذ عهد ترامب الى نقل اسرائيل من نطاق عمليات القيادة الاوروبية للقوات الاميركية الى نطاق عمليات القيادة المركزية في الشرق الاوسط، لتسهيل دمجها في المنطقة، وبناءً عليه، يكون بايدن قد انجز في اسبوعين ما لم ينجزه في عامين من دخوله البيت الابيض.
على النقيض من ذلك، وفقًا لــ جوناثان روتش- زميل معهد بروكينغز في واشنطن، يقول: “إذا كنت تشعر بأنك على حق فهذا يعني غالبًا أنك مُخطئ”، بعبارة اخرى، يبدو أن بايدن حدد نقطة الخلاف مُبكرًا مع اطرافٍ فاعلة جديدة، ربما يكون تأكيده الاول لقادة إسرائيل صحيح، لكن، الثاني لا اساس له من الصحه، فقد أثار إعلان اقتراب توقيع إحياء الاتفاقية النووية مع ايران حفيظة عدد من دول الخليج وفي مقدمتهم العربية السعودية، التي سبق وأن أبدت انزعاجًا من السلوك الاميركي الانفرادي بالملف النووي الايراني، وعدم التنسيق مع دول مجلس التعاون الخليجي لمعالجة اوجه القصور في الاتفاقية[1]، وبالتالي كرد فعل على هذا الاتفاق المنتظر إعلان توقيعه، تستعد العربية السعودية لتنظيم استقبالًا عالي المستوى للرئيس الصيني شي جين بينج خلال زيارته للممكلة المتوقعه الاسبوع القادم بناءً على دعوة ملكية، ووفقًا للتسريبات، فإن قيادة المملكة وعلى رأسها الامير محمد ستنظم استقبالًا حافلًا للرئيس الصيني مشابه لذلك الذي تم ترتيبه لاستقبال الرئيس السابق ترامب.
هذا الاستقبال الحافل المتوقع لمنافس واشنطن العنيد، سيكون متناقض بشكل صارخ مع الاستقبال البارد لجو بايدن في يونيو/ حزيران الماضي، والذي كان انعكاسًا للعلاقات المتوترة أصلًا بين البلدين والنفور الشخصي بين بايدن والزعيم الفعلي للمملكة الامير محمد بن سلمان. ومع استمرار انحدار مستوى العلاقة مع واشنطن، تتوطد علاقات الرياض وبكين، والتي بدأ بتعميقها الامير محمد منذ العام 2016، فقد دافعت المملكة عن رواية القيادة الصينية المتعلقة بمسلمي الايجور في اقليم شينجيانج، وحقوق الانسان في اقليم هونج كونج، ورفضت التساوق مع الرواية الاميركية والغربية، بالمقابل، التزمت بكين الصمت حيال العمليات العسكرية للتحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن لمواجهة اعتداءات الحوثيين، الى جانب، حادثة مقتل جمال خاشقجي، وقطع العلاقة مع قطر من قبل دول مجلس التعاون الثلاث ومصر عام 2017.
يقول احد الاستراتيجيين، من الصعب ان تقف امام القضية كمرآة عاكسة تؤكد وجودك، بل يجب عليك الحضور لتصحيح السرد منعًا من تأكيد رواية عدوك، بينما تركز واشنطن في استراتيجيتها على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتحرك الورقة التايوانية لضرب مصالح الصين واحتواء نفوذها، يخرج التنين الصيني لتوسيع دائرة العرض الترددي لمنافسة واشنطن في المسرح الاساسي لها، ويقترب أكثر من منابع النفط، ويعمق علاقاته مع الكتلة الخليجية ليكون بمثابة شريك حاضر في القضايا الاقتصادية والسياسية على نحو متزايد، بالمقابل، يعيد الامير محمد تأكيد الاهمية الاستراتيجية للمملكة ودور دول مجلس التعاون عمومًا، على المسرح الاقليمي والدولي وحضوره الفاعل للمساهمة في حل القضايا الدولية الى جانب روسيا والصين، مع مراعاة مصالح الامة العربية، سيستثمر الامير في العلاقات الدافئة التي تجمع الرئيسين شي جين بينج وفلاديمير بوتين مع قيادة طهران، لاصلاح العلاقة المتوترة وايجاد ارضية مشتركة بعيدًا عن صيغة بوريل تراعي مصالح دول المنطقة الغنية بموارد الطاقة، بعيدًا عن مسارات واشنطن المختنقة.