الاحدثدولي

مفاوضات فيننا وآفاق الملف النووي الإيراني (تقدير موقف)

تقدير موقف لوحدة التفاكر في مركز دراسات الوحدة العربية (يذكر ان منسق وحدة التفاكر هو الصحافي الباحث محمد بلوط)

تطرح مفاوضات فيينا المرتقبة حول الملف النووي الإيراني جملةً من التقديرات التي يتوقف رجحان أحدها على الأخرى على مجموعة عوامل ترتبط بالوضع الأمريكي داخليًا وخارجيًا، كما بوضع المشروع النووي الإيراني تقنيًا وسياسيًا، والوضعين الإسرائيلي والإقليمي.

ربما يكون الملف النووي الإيراني شهد تقدمًا كبيرًا في المفاوضات لإحياء اتفاق فيينا في الرابع عشر من تموز/ يوليو 2015، حتى قبل انعقاد جولة سابعة في فيينا في التاسع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 2021. غير أن كثافة التطرّق الإعلامي والتحليلات والتسريبات، والسيناريوهات الكثيرة التي تدفقت من الخبراء ومراكز الدراسات ووسائل الإعلام حول لون الدخان الذي سيتصاعد من مدخنة وكالة الطاقة النووية في فيينا، تُشير إلى تعدد أولويات الأفرقاء والسيناريوهات. وهذه السيناريوهات المفتوحة باتت تصطدم بحقيقة أن مصير الجولة السابعة لا يزال معلقًا أمريكيًا على سبل كبح التوجُّه الإيراني المتزايد نحو برنامج نووي استراتيجي عسكري غير معلن، ويصطدم بمطالبة إيران الرئيسَ جو بايدن برفع كامل العقوبات وفورًا، وبضمانات أمريكية لطهران بألّا يلقى اتفاق فيينا الجديد ما لقيه الاتفاق القديم على يد الرئيس دونالد ترامب.

الأرض التي تقف عليها المفاوضات

تشهد «فيينا» اختبارًا لا بد منه للوقائع الجديدة التي تحكم الجولة السابعة، التي تخلّلت سنوات تعطيل الاتفاق، منذ أن نثرته إدارة ترامب في مهبّ الريح في أيار/ مايو 2018. أبرز تلك الوقائع اندفاع الإيرانيين إلى تطوير برنامجهم النووي، وزيادة مخزونهم من وقوده المخصّب بنسبة 60 بالمئة (وبوجه خاص إلى 75 كلغ)، وبلوغهم وضع الدولة العتبة النووية، أي القادرة على إنتاج القنبلة في زمن قصير نسبيًا. وقد بدأ ترجيح كفة إيران في الإقليم بعدما باتت تمتلك قاعدة وطنية واسعة لمشروع نووي مفتوح على المجال العسكري، في حين لا تمتلك أي من دول مجلس التعاون الخليجي منافسًا وطنيًا لها حتى اليوم. كما لا تزال الطموحات النووية السعودية تنتظر ضوء الكونغرس الأخضر، وتخلي الولايات المتحدة عن بعض الشروط، الذي يمنح السعودية مدخلًا، ولو متأخرًا، للذهاب نحو توازن نووي ما مع إيران، إذا ما فكّرت بالخروج مستقبلًا من العباءة الأمريكية.

ولا تعمل دول مجلس التعاون الخليجي في مواجهة التقدم النووي الإيراني، وفي ظل الانكفاء الأمريكي من المشرق العربي باتجاه الصين، إلّا على مزيد من التطبيع مع القوة النووية المنافسة الوحيدة في الجوار: “إسرائيل”. وهذا الاتجاه ما انفك يتوسع، وخصوصًا بعدما أبلغ روبرت ماليه، المبعوث الأمريكي إلى “فيينا” والمديرون الثلاثة في خارجيات التفاوض الأوروبيين، دول مجلس التعاون الخليجي عن تراجع البحث في إدراج الملف الصاروخي الإيراني على طاولة الجولة السابعة والتوسع الإقليمي الإيراني في اليمن والعراق وسورية ولبنان، وتقدُّم كبح نزوع إيران نحو الدولة العتبة النووية أولوية غربية أمريكية – إسرائيلية.

وتبادل الإيرانيون والأمريكيون اختبارًا للنيات يشير إلى ضيق المخارج والخيارات أمام جولة فيينا. فقد رفض الإيرانيون طلب رافاييل غروسي، مدير وكالة الطاقة النووية، إعادة تشغيل كاميراته في منشأة “كرج”، وفي المقابل لم تحرر الولايات المتحدة بعض الأرصدة الإيرانية كبادرة حسن نية؛ وهذا إن دل على شيء فإنه يدلّ على تصلب متزايد ومتوقع يسبق أي تنازلات عشية مفاوضات حرجة.

الأولوية الإيرانية لضمان الاتفاق

تجد إدارة بايدن نفسها في هذه المفاوضات أمام مطلب إيراني أساسي يقضي بتقديم هذه الإدارة الضمانات البديلة في جميع السيناريوات لأي اتفاق محتمل، ليس لأن الولايات المتحدة هي من خرج من الاتفاق فحسب، بل لأن كل شروط الخروج أمريكيًا من أي اتفاق مع إيران لا تزال قائمة، في ظل توقّع الاستطلاعات هيمنة الجمهوريين في أي انتخابات مقبلة على الكونغرس، واستمرار الرئيس السابق دونالد ترامب مرشحًا محتملًا للعودة إلى البيت الأبيض. وهذه الضغوط تشتد إلحاحًا وقد تدفع إلى التوصل إلى أي اتفاق وفي أي سيناريو، لسببين: أولهما استمرار الضغوط الإسرائيلية لتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية مشابهة لعملية “أوبرا” في 7 حزيران/ يونيو 1981 التي دمرت فيها “إسرائيل” مفاعل «تموز» العراقي. وثانيهما بدء الحديث في أوساط بعض المسؤولين السابقين الأمريكيين حول ضرورة أن تعير الولايات المتحدة “إسرائيل” قاذفات بي 52 اتش، وقنابل تزن 13 طنًا قادرة على تدمير تحصينات ومنشآت فردو الجبلية، من دون أي حسبان للنتائج وردود فعل الطرف الإيراني.

كما أن ارتقاء إيران إلى مصاف الدولة العتبة النووية سيؤدي إلى تآكل الردع الإسرائيلي الذي سيشتد تآكله، إذا ما عمدت إيران إلى نشر مظلة الدولة العتبة النووية في مناطق توسعها بحسب المحللين الإسرائيليين. لكن المطلب الإيراني برفع كل العقوبات دفعة واحدة، مقابل العودة إلى الاتفاق النووي وتجميد الأنشطة ما بعد إلغائه، لن يكون متاحًا في أي سيناريو اتفاق في المقابل، إذ إن كتلة العقوبات نفسها وعملية إلغائها تتطلبان آليات شديدة التعقيد قانونيًا في الولايات المتحدة، فضلًا عن أنها مديدة زمنيًا بحيث لا يمكن أن تلبي الشروط الإيرانية لعودة سريعة إلى الاتفاق النووي لقاء رفع العقوبات فورًا. وإذا كان مؤكدًا أن الإيرانيين يسعون إلى تسوية ما في فيينا، إلا أنهم لن يرضوا بالعودة إلى الاتفاق القديم، أو التخلي عن منجزاتهم في تطوير برنامجهم، وسيبحثون عن إطار جديد يضمن استمرارها. وستكون مهمة المفاوض الإيراني في فيينا أسهل من أنداده الأوروبيين والأمريكيين.

إرباك أمريكي في وجه موقف إيراني موحَّد

إذا كان القرار الأمريكي مربكًا بسبب تبعثره بين الإدارة والبيت الأبيض، والدولة العميقة، فإن توحيد مراكز صنع القرار في إيران بيد الأصوليين، بين مؤسسات مجلس الشورى، والرئاسة، والمرشد، والحرس الثوري، يمنح موقفها قوة جديدة تتجاوز أفق التنازلات التي قدمها الإصلاحيون، في نوستالجيا رهانهم على صفقة مع أمريكا، تحجز لإيران “المعتدلة” موقعًا على خارطة توزيع النفوذ الأمريكية؛ إذ غادر الإيرانيون، مع وصول الرئيس إبراهيم رئيسي إلى الحكم وخروج فريق الرئيس حسن روحاني، الرهان على أي ضمانات أوروبية، بعدما فشل الأوروبيون في الوفاء بتعهداتهم لإيران بإيجاد آليات مالية بديلة من نظام «سويفت» لدفع وتمويل التجارة مع إيران، أو حتى العثور على شركة أوروبية واحدة قادرة على عقد صفقة بيورو واحد، تتلافى العقوبات الأمريكية.

كما يبدو أن الفريق الإيراني الجديد ليس مستعجلًا للتوصل إلى اتفاق، لتيقّنه بضمور آثار العقوبات على الاقتصاد، واقتناعه بأنه مع تغيير موقع إيران الجيوبوليتيكي قد أصبح قادرًا على مواجهتها. ويتحدث علي باقري كني، نائب وزير الخارجية الإيرانية وكبير المفاوضين في فيينا عن بدء المفاوضات وليس عن استئنافها، بل عن الجولة الأولى منها. في حين يقول محمد مخبر ديزفولي، النائب الأول لرئيس الجمهورية الإسلامية “إنه ليس من أولوياتنا رفع العقوبات الاقتصادية، ولم نعد نربط قضايانا السياسية والاقتصادية بها”. لقد أعاد هذا الفريق صوغ ميزانية تقلل من الاعتماد على النفط، وتتجاوز مفاعيل العقوبات الأمريكية على الاقتصاد الإيراني. ويرى ديزفولي أن المشكلات الحقيقية التي تواجه إيران، ليست العقوبات التي تؤثر بنسبة 30 في المئة في الاقتصاد الإيراني، بل إن الخطر الأكبر هو سوء إدارة الموارد، والفساد في الإدارة الإيرانية.

قبل التوجُّه إلى فيينا اتخذت إيران وجهة مغايرة للاتجاه غربًا للعثور على المزيد من الشراكات الاقتصادية والاستراتيجية شرقًا، وتحالفات ربما لا تدعم برنامجها النووي، ولكنها تؤيد بأي حال رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها كالصين وروسيا. وقبل فيينا حسمت إيران خياراتها بالتوجه شرقًا نحو الصين، فوقعت معها اتفاقًا استراتيجيًا بقيمة 250 مليار دولار. فضلًا عن ذلك، وقعت إيران تفاهمات استراتيجية مع روسيا، وانضمت إلى منظمة شنغهاي. وأفشلت إيران عملية تصفير الصادرات النفطية الإيرانية، بعدما عادت إلى الأسواق بمليونين ونصف المليون برميل نفط يوميًا، فضلًا عن تحرير بعض أرصدتها الخارجية المجمدة.

البناء على أرض رخوة

إن الحماسة في التوصل إلى تسوية سريعة وناجزة هي موضع شكوك كبيرة؛ ففي ظل الانسحابات الأمريكية من السعودية نحو قواعد أردنية، بات من المؤكد أن واشنطن ترغب في إطفاء جذوة التوتر والنار خلفها في الشرق الأوسط، وغرب آسيا، استعدادًا للتوجُّه نحو بحر الصين الجنوبي لاحتواء الصعود الصيني. إلا أن الولايات المتحدة تفعل ذلك من دون تنظيم خروجها، أو طرح الدور الإقليمي الإيراني في فيينا أو بعدها، لطمأنة حلفائها من الأنظمة العربية، مكتفية بما يقوله وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن من “أننا سنعود إذا اقتضى الأمر ذلك” والرد على ما يتصل بالبرنامج النووي الإيراني وحده دون غيره .

وإن انتابت الإيرانيين رغبات سلمية موضعية، إلا أنهم سيحاولون تحسين شروط أي تسوية عبر الاستفادة القصوى من اضطرار أمريكا إلى الانكفاء. وقد يتكرر ما بعد أي تسوية أمريكية- إيرانية سيناريو التوسع الإيراني في العراق، ما بعد غزوه أمريكيًا، لفرض تسوية مقبولة، وملء الفراغ الذي سيتركه الأمريكيون على حساب حلفائهم من العرب.

ولا يوجد ما يشير حتى الآن إلى قدرة القوى الإقليمية الأخرى على ملء هذا الانكفاء مقابل التقدم الإيراني، ولا سيما تركيا، أو روسيا، في ظل استمرار النظام الإقليمي العربي بالتهافت الذي يستجيب للانسحاب الأمريكي، بشكل فوضوي وغير منظم ويعكس “متلازمة” كابول، بتنويع ضماناته الأمنية عبر التقارب مع تركيا سعوديًا وإماراتيًا، أو التلويح بصفقات أسلحة مع روسيا، أو توقيع اتفاقيات تعاون أمني مع “إسرائيل”، في ظل استنكاف الإدارة الأمريكية عن إعادة الاعتبار للعلاقات مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

وتبدو صورة أفغانستان أكثر انعكاسًا في تطوير الإمارات، بالسر عن شريكتها المنسحبة الولايات المتحدة، شراكتها الاقتصادية الواسعة مع الصين إلى شراكة عسكرية، ودفع الأمريكيين الإمارات إلى وقف عمليات بناء قاعدة عسكرية صينية سرية على سواحلها في الخليج بعدما اكتشفتها الاستخبارات الأمريكية، وهو مؤشر مهم على تأثير “متلازمة” كابول، وعلى محاولات التكيُّف بأسرع ما يمكن مع الانسحاب الأمريكي.

في الأفق: انفراجات لا اتفاقات ناجزة

يبدو السيناريو الأقرب اليوم هو حصول “انفراجات” مؤقتة في الملف الإيراني، تعتمد على مبادرة الرئيس بايدن برفع جزئي للعقوبات، من ضمن صلاحياته الدستورية، يُجدَّد كل ثلاثة أشهر إلى حين انتخاب رئيس جديد عام 2024. أما الذهاب إلى اتفاق نهائي فيبقى مشروطًا بإعادة انتخاب بايدن وعودة أكثرية ديمقراطية إلى الكونغرس تساند هذا الاتفاق، وهي فرضية صعبة التحقق في ضوء انهيار شعبية بايدن، وتقدم الجمهوريين في كل الاستطلاعات. في مقابل ذلك، يوافق الإيرانيون على عودة المفتشين إلى مراقبة المنشآت النووية الإيرانية، وتطبيق الملحق الخامس الذي علّق مجلس الشورى الإيراني العمل به بعد اغتيال “إسرائيل” لمدير البرنامج النووي الإيراني محسن فخري زاده، قبل عام تمامًا. كما أن الولايات المتحدة تبادر إلى مفاوضات غير مباشرة في فيينا للتوصل إلى اتفاق لن يكون أفضل من الاتفاق السابق، وقد يعكس قبولها بوصول إيران إلى وضعية الدولة العتبة، دون تضمين ذلك أي اتفاق. فإدارة بايدن تدرك أن استمرار الوضع الحالي ليس لمصلحتها ولا لمصلحة لحلفائها، لأن إلغاء الاتفاق يمنح إيران فرصة تطوير برنامجها النووي، بل ويكشف محدودية تأثير الاتفاق على البرنامج في صيغته الماضية نظرًا إلى السرعة التي استعادت إيران معها أنشطتها التخصيبية، والاستمرار بتعزيز كوادرها وبناها التحتية، والتوسع فيها من دون أن تتمكن الضغوط القصوى من وقفه.

أما المبادرة الروسية التي يجري الحديث عنها في فيينا، فقد تُمثل سيناريو للخروج من الاستعصاء، يقبل به الطرفان. يقترح الروس جدولة رفع العقوبات الأمريكية، بالتزامن مع عودة إيران إلى نظام «سويفت» المالي، والسماح لها ببيع نفطها وفق تفاهمات “أوبك” بما يعادل مليونين ونصف المليون برميل يوميًا، وتحرير الولايات المتحدة مليار دولار من الأرصدة الإيرانية المجمدة، كبادرة حُسن نية، تسهيلًا لمهمة المفاوضين في فيينا. وهناك مؤشرات تدل على قبول إدارة بايدن بوساطة روسية لفتح قنوات حوار سعودية- إيرانية، بعد فشل جولات الحوار المباشر في بغداد، والتي ربما تنعكس أيضًا على مفاوضات فيينا.

ويظل سيناريو الحرب بعيدًا في حال فشل الجولة، وهي التي لم تقع رغم تكرار الفشل في الجولات السابقة. ويتراجع باضطراد سيناريو الضربة العسكرية الإسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية، بسبب رفض السعودية منح “إسرائيل” ممرًا جويًا لقاذفاتها، واستمرار التغيير في ميزان القوى العسكري لمصلحة إيران مع تقدم برامجها الصاروخية والنووية، وهو ما يجعل أي تدخل عسكري عملًا مكلفًا وغير محسوب العواقب.
المصدر: اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى