بالنسبة “لفلاديمير إيليتش لينين” ، تطلب الثورة ثلاثة شروط مسبقة لقيامها:
الأول – يجب أن تكون الجماهير غير مستعدة لقبول الوضع الراهن.
والثاني – أن تكون الطبقة الحاكمة غير قادرة على فرض الوضع الراهن.
والثالث – يجب أن يكون هناك اندلاع الحماسة والنشاط السياسي بين الجماهير(الغضب الذى سيولد شرارة تفجير الثورة).
و بمجرد استيفاء هذه الشروط ، سيكون لينين مستعداً للانتقال إلى مسألة الأدوات الثورية لقيام الثورة وحمايتها ، والتي كانت في حالته حرباً وإرهاباً وعمليات إعدام.
و من الجدير بالذكر أن البلاشفة وعلى رأسهم نجم الحزب في ذلك الوقت “نيكولاي بوخارين” أرادوا تجريم عقوبة (الإعدام) ، فكان رد الزعيم الثورى “لينين” على نجم شباب الحزب اللامع “بوخارين” قوله له في سؤال استنكاري أقرب منه إلى التساؤل:
«كيف يمكنك القيام بثورة والمحافظة عليها من الثورة المضادة بدون إعدامات أيها الرفيق؟»!!
وهو نفس ما حدث تقريباً من لينين مع الأديب المبدع مرهف الحس ماكسيم جوركي
نصيحة السياسي الثوري للأديب الحالم!
فقد كان الأديب الروسي الكبير “مكسيم غوركي” غير متحمس لبعض الأساليب القهرية المستخدمة من قبل السلطة الثورية البلشفية وعلى رأسها مفكرها وقائدها “فلاديمير لينين”.
في حين أن لينين كان يرد على جوركي: [بأن تلك الأساليب هي من باب «التكاتيك» اللازمة لنجاح الثورة].
وفي أحد النقاشات بينهم تلقى الأديب الحالم جوركي نصيحة من السياسي الواقعي لينين ، عندما قال له:
[ إن «الزهور» لا تُنجح الثورات ، ولكنه «الرصاص» ، إذهب إلى أحد المدن البعيدة واسترح هناك ، واعلم أن الواقع الثورى يختلف تماما عن احداث رواياتك، إن الحقيقة دائما صادمة ، ولكن لا مناص من التعامل معها ].
وربما أن ذلك التناقض بين نظرة المثقف للأمور وبين نظرة السياسي حتى ولو كان «ثوري» تعود إلى أن المثقف ينشد (الواقع المثالي للأمور)، بينما السياسي هدفه المحافظة على مكاسبه السياسية في الواقع الحي أمامه (بصرف النظر عن الوسيلة المستخدمة للحفاظ على ذلك الواقع).
إنه الفرق بين «عذرية» أحلام المثقف و «انتهازية» و«واقعية» أفعال السياسي!!
– وكان الدكتور “نديم البيطار” في أطروحته (الايدلوجيا الثورية) من أشد مناصري لينين في الحفاظ على الثورة وحمايتها من الثورة المضادة بأقسى وأفظع الوسائل.
– ووقف الدكتور “عصمت سيف الدولة” في البداية حائراً قليلاً في أسلوب المواجهة ولكنه في النهاية انحاز لأسلوب لينين في أطروحته (نظرية الثورة العربية).
– بينما الأستاذ محمد حسنين هيكل أراد التوفيق بين (الحوار والإقناع والشدة والاجبار) في مقالاته التي نشرها في الأهرام و التي جُمعت في كتاب فيما بعد بعنوان (أزمة المثقفين).
و يمكن أن يُقال باطمئنان أن الأسلوب “الثورى العنيف” وفق البعض أو”الإرهاب الثوري” وفق البعض الأخر في «الحفاظ» على «الثورة» من «الثورة المضادة» هو من «يدفع» الثورة الى مرحلة «الردة» و«الانقلاب» عليها.
ويمكن أن نأخذ الثورة الفرنسية مثالاً ، فالثورة الفرنسية مرت بمراحل كثيرة مرت بمرحلة التحريض و التوعية والتي مثلها شخص مثل “ميرابو” ، ومرت بمرحلة الرغبة في الحلول الوسط وفيها شخصية مثل “فانتان” ، ومرت بمرحلة الرعب و الارهاب الثوري وفيها شخصية مثل “روبسير” ، ومن المفارقات أن الثلاثة قُطعت رقابهم على المقصلة.
“فدانتون” مثلاً لم يعي أنه عندما أمسك رأس الملك “لويس” ورفعها بعد إعدامه على المقصلة ، وقال قولته المشهورة:
«لقد تحدانا ملوك أوروبا فألقينا لهم برأس واحد منهم»!
إن دانتون لم يعي أنه بحماسته «بقطع» رأس الملك لويس على المقصلة قد وحد القوى الخارجية (ملوك أوروبا) و حشدهم ضد الثورة الفرنسية الوليدة ، فيما سُمى (بالحلف المقدس) ، لأن هؤلاء الملوك خافوا وارتعدوا من انتقال عدوى الثورة لممالكهم ، وكى لا يستيقظون ذات يوم ليجدوا رؤوسهم طائرة في الهواء مثل الملك “لويس” الذى فقد كل شيء من (كرسي عرشه) حتى الإطاحة (برأسه)!
كما يخبرنا التاريخ أيضاً أن من اتبع “الاسلوب الثوري” في الحفاظ على الثورة ، مثل (الثورة الفرنسية) في وقت اليعاقبة وزعيمهم وقتها “روبسبير”، فيما سُمى وقتها بالإرهاب الثورى ورمزها (المقصلة) ، انتهت (بفشل) الثورة و(تسليم) الثورة إلى (ردة) أكبر عن طريق تخويف الناس من المحاكمات الثورية واشمئزازهم من الرؤوس المتطايرة في الهواء عن طريق المقصلة لكل من يتم التشكيك في ولائه للثورة.
كل ذلك وضع الثورة في موضع (الاتهام) بالتسبب في سوء الأحوال ، واضطر الناس للمُناداة على الجنرال “نابليون بونابرت” لتخليصهم من ذلك الجحيم الذى يسمونه (ثورة)!
أي أن الإجراءات الثورية التي اتُخذت للمحافظة على الثورة ، قد وضعت الثورة في قبضة (ممثل الثورة المضادة) وبموافقة الثوار وتأييدهم بل ومناشدتهم للمسيح المُخلِص الجديد الجنرال “نابليون” بتولي زمام الأمور!
إن الجنرال نابليون ما لبث أن تحول من (قنصل) فرنسا (للإمبراطور) «على» فرنسا ، وكله باسم الثورة الفرنسية وبموافقة الثوار الذين خرجوا ذات يوم ضد ملكية البوربون البغيضة منادين (بالحرية والإخاء والمساواة)!
ولعل نظرة سريعة على أعمال الجنرال نابليون بعد توليه السُلطة تجعلنا نعرف إلى أي مدى تراجعت الثورة بسبب الإرهاب الثورى الذى مثله روبسبير في بداية الثورة!
فقد قام نابليون بتغيير الدستور والسيطرة على كل شيء في فرنسا التشريع والحكومة والقضاء والتعليم والصحافة ، واستطاع نابليون تدجين المؤسسة الدينية ممثلة في (الكنيسة).
فقد قام نابليون بتعيين مجلس نيابي شكلي ليُخرج قراراته بشكل ديموقراطي ، وقد أطلق الفرنسيون على ذلك المجلس اسم:
«مجلس الثلاثمائة أبكم»!
ثم قام “نابليون” بعد ذلك باختيار حكومة ووزراء موالين له شخصياً وكان من أعوانه في الوزارة “فوشيه” في البوليس ، و “كارنو” في الحربية و”تاليران” في الخارجية.
ولعل تاليران نموذج يُظهر فكر وأسلوب نابليون في اختيار رجاله:
ف “تاليران” كان وزير خارجية لويس السادس عشر قبل الثورة الفرنسية ، ثم أصبح وزير لخارجية “نابليون بونابرت” بعد الثورة ، ثم انتهى وزيراً لعصر ثالث عندما سقطت الثورة وعاد البوربون مرة أخرى إلى قصر التويلري على عهد لويس الثامن عشر، واستحق تاليران بالتالي لقب «رجل لكل العصور»!
كذلك عنى نابليون ببسط سلطته على كافة مناحي الدولة وعلى كل السلطات وعلى رأسها (السلطة القضائية) فألغى مبدأ انتخاب القضاة إلا فيما يتعلق بقضاة محكمة الثورة لأنه واثق فيهم لأنهم من العسكريين.
وقام نابليون بابتداع أسلوب جديد للسيطرة على بعض المعارضين وكسب الأنصار له ولنهجه فابتدع ما سماه “وسام فرقة الشرف” لرجال الجيش خاصة والممتازين من خُدام الدولة ، وقد عارض ذلك البعض لأنه لا يتفق مع مبدأ المساواة (أحد مبادئ الثورة) فرد “نابليون” يبرر مسلكه بقوله:
«لتكن هذه الأوسمة كما يقولون لعباً يغتر بها البعض ، أليس باللعب يُقاد الرجال؟ انى لا أعتقد أن الفرنسيين يميلون إلى الحرية والمساواة لأن عشرة أعوام ثورة لم تغيرهم ولا بد من ألقاب فخرية وامتيازات».
وكانت رعاية نابليون تشمل الجيش بوجه خاص وتميز العنصر العسكري على المدني ، وقد قام نابليون بتوزيع مساحات شاسعة على كبار ضباطه كأملاك ثابتة لهم وكان إيراد بعض القواد والجنرالات أكثر من مليون فرنك في العام .
وعلى الجانب الآخر قام نابليون بفرض ضرائب باهظة على كل السلع التي تهم المواطن البسيط مثل المشروبات والملح والدخان وكل ما يخطر أو لا يخطر على البال.
حتى التعليم أراد نابليون تنظيمه بطريقة تمكنه من الهيمنة على الآراء السياسية والاجتماعية فأنشأ (الجامعة الإمبراطورية) حتى يكفل (توحيد) التعليم على (نمط واحد) وينشئ للدولة مواطنين مؤيدين له و متعلقين به ويجد وقاية ضد النظريات الآثمة الفاسدة في النظام الاجتماعي ، إن مهمة الجامعة في رأى نابليون هي:
«تعليم الطاعة للإمبراطور والملكية الإمبراطورية التي هي مصدر هناء الشعب».
كما أصدر نابليون أمراً بإلغاء جميع الصحف السياسية ما عدا ثلاث عشرة صحيفة تؤيد الحكومة ، وأنُشئت في عهده إدارة عامة في وزارة الداخلية للإشراف على المكاتب والمطابع وبسط الرقابة على كل ما يظهر في عالم الكتابة والنشر لأن المطبعة في رأى “نابليون” :
«مخزن أسلحة لا يصح أن يؤتمن عليه كل الناس إلا أولئك الذين تضع الحكومة فيهم ثقتها».
وكانت الرقابة قد أذنت بطبع كتاب مدام ستايل عن المانيا بعد ما حذفت منه جملاً كثيرة مثل قولها:
«إن باريس هي البلد الوحيد الذى يسهل على الإنسان فيه أن يستغنى عن النعيم» خشية أن يكون فيه تلميح إلى أن الفرنسيين كانوا في شقاء!
وارتفع شأن وزارة البوليس وكان “فوشيه” وزير البوليس ينشر الجواسيس الذين يأتون له بالأخبار ومراقبة الوطنيين الأحرار.
ومع ذلك كان “نابليون” يتظاهر بكراهية الاستبداد ويقول لفوشيه:
«لا أريد أن يكون الفرنسيون عبيداً يا فوشيه»!
وهكذا لم يبق أمام نابليون بعد القنصلية الدائمة وخنق المعارضة إلا الملكية الوراثية وسرعان ما اقترح “فوشيه” على مجلس الشيوخ أن «يرجوا الرجل العظيم العمل على إتمام البناء وتخليده»!
ثم قام أحد أعضاء مجلس الشورى وطلب بصراحة (إعلان نابليون بونابرت إمبراطوراً على الفرنسيين) وجعل الإمبراطورية وراثية في أسرته.فلم يجرؤ أحد على المعارضة.
وعلى ذلك أصدر مجلس الشيوخ في 18 مايو 1804 مرسوماً (يكل حكومة الجمهورية إلى الإمبراطور نابليون) ، وجرى استفتاء عام فوافق الشعب على ذلك التغيير الجديد بنسبة قاربت (98%)!
وهكذا فإن الثورة التي قامت ضد ملكية البوربون ورفعت لواء (الحرية والإخاء والمساواة) انتهت بتنصيب الجنرال “نابليون بونابرت” إمبراطوراً للجمهورية الفرنسية وبموافقة الشعب بنسبة تخطت (98%)!
وكانت خاتمة المشهد الغريب والعجيب والمثير أيضاً في حفل تنصيب الإمبراطور:
أن قام الجنرال الإمبراطور “نابليون بونابرت” بوضع التاج على رأسه بنفسه كإشارة للجميع بأنه ليس مدين لأحد بما حصل عليه من رفعة المقام إلا لنفسه وعقله ومجهوده.
وكان ذلك مثالاً على نتيجة استخدام الأسلوب الثوري دفاعاً عن الثورة.
والأغرب أن الثورات التي لم تستخدم الأسلوب الثوري في حماية ثورتها انتهت بالموت غيلة في الظلام كما حدث مع الثورة الكونغولية بقيادة “باتريس لومومبا” والذى اغتالته دول الاحتكار العالمي بأيدى كنغولية عميلة اسمها “مويس تشومبي” و “موبوتو سيكو سيكو” تحت سمع وبصر الأمم المتحدة وقتها.
وكان الزعيم الغاني الدكتور كوامى نكروما يقول عقب اغتيال لومومبا وثورته :
« لقد بكيت بالدمع غيظاً وتألماً وإنني لأشعر بالمرارة حتى اليوم في قلبي. وفى ظلمات الليالي، كثيراً ما أسأل نفسى ساعات السهر والأرق:
تُرى كيف كان لومومبا يشعر وهو يجد قواتنا، قواتنا التي أرسلناها لتكون معه، تتصدى له وتقف ضده”.ويستطرد نكروما، يهز رأسه بالأسى:
“لقد خانتنا الأمم المتحدة، وأكثر من ذلك استعملتنا في خيانة مبادئنا”!
– أي أن الثورات التي استخدمت الأسلوب الثوري العنيف في الدفاع عن نفسها ارتدت عليها الثورة المضادة من داخلها.
– والثورات التي استخدمت أسلوب اللين والحوار اغتيلت غيلة في جنح الظلام.
وتلك معضلة لا أجد حلاً لها … كيف يمكن (حماية) الثورة في مراحلها الأولى من (انقلاب) الثورة المضادة؟
باستخدام المشانق ..أم بانتهاج الحوار؟
بالرصاصة القاتلة .. أم بالكلمة العاقلة؟
بمسك القلم .. أم بامتشتاق السيف؟
بالرقابة .. أم بالحرية؟
بفكر لينين أم بأمل بوخارين؟
ولعلنا اليوم مخيرون بين نموذجين:
* نموذج ديكتاتورية الجنرال “نابليون بونابرت” العسكري .
* ونموذج الفاشية الدينية التي مثلها الراهب الدجال “جريجوري راسبوتين” الذى استخدم الدين سلاحاً وشعاراً للسيطرة ومارس من خلاله كل الفواحش للوصول لأغراضه الدنيوية الدنيئة.
وبعد عزيزي القارئ .. أيهما تفضل أنت:
نابليون أم راسبوتين؟!
الديكتاتورية العسكرية.. أم الفاشية الدينية؟
الخيار لك في الحالتين .. ثق بأننا لن نجبرك على شىْ كما تفعل حكوماتك الديموقراطية!!
لا أعلم لماذا تذكرت تلك القصة بعد أن انتهيت من المقالة:
فعندما أعلن جاليليو انحيازه لنظرية “كوبرنيكوس” ، وذاع صيت كتابه المشهور(حوار حول اهم نسقين فى العالم) الذى يدحض فيه نسق بطليموس ويدعوا إلى نسق كوبرنيكوس ، فصودر الكتاب، واستدعى جاليليو، إلى روما للمثول أمام ديوان التفتيش على الأفكارلمحاكمته!
فأنكرحتى لا يُعدم، وأقسم وهو راكع على رُكبتيه، ثم وقع بإمضائه على صيغة الانكاروالقسم ..ويروى:
أنه بعد التوقيع – ضرب الأررض بقدمه وقال:
“ومع ذلك فهى تدورُ”