اجتماع

التحديات المعاصرة في مسار تربية الأبناء على التسامح ونبذ التعصب | كتبت د. صفاء الشويحات

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

تواجه القوى السياسية في عالمنا العربي في الوقت المعاصر تحديات عدة، ولعل أهمها الضغوط الشعبية تجاه ترسيخ مبادىء الديمقراطية وفضائل المواطنة وحقوق الانسان من جهة، وخطورة انتشار الفكر المتطرف من جهة أخرى، وقد أدركت هذه الأنظمة السياسية بعد ما سُمي بثورات الربيع العربي أن قوة الأنظمة السياسية لا تعتمد على جيوش قوية وأجهزة أمنية، بقدر ما تعتمد أولاً وقبل كل شيء على مواطنين صالحين مخلصين لهذه الأنظمة. والإخلاص نابع عن قناعة ووعي بالمبادئ التي تقوم عليها هذه الأنظمة والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها وهذا كله لن يتحقق إلا بالتربية.

ومن المؤكد أن لكل أمة من الأمم منهاج أخلاقي تربي عليه أجيالها الناشئة في شتى ميادين الحياة يتماشى وفق أهداف تلك الأمة، وسواء كان هذا المنهاج من المناهج الوضعية أو السماوية، فإن أول ما يهدف إليه هو إيجاد المواطن الصالح وفقا للأهداف المادية والمعنوية لتلك الأمة.

يعتبر علماء الاجتماع التربية عملية تفاعل تتم في وسط اجتماعي يكتسب الإنسان من خلالها ما يمكّنه من التكيف مع المجتمع الذي يعيش فيه مثل اكتساب لغة المجتمع وقيمه وعاداته وتقاليده. ويعتبر علماء النفس التربية على أنها عملية تعلم على نحو يؤدي إلى تعديل سلوك الانسان عبر انتقاء الخبرات التربوية المناسبة وتنظيم الظروف المحيطة به، والتي تساعد على تفتح قابليته واستعداداته للتعلم. أما التربية بالنسبة للسياسيين فهي الوسيلة التي تجعل من الإنسان مواطناً صالحاً يعرف حقوقه ويمارسها، ويؤدي واجباته بكل وعي وخلق ومسؤولية. وفي معرض أهمية توجيه العمل التربوي في المجتمع يقول الفيلسوف الفرنسي(هلفيستيوس/Helvétius): بوسع التربية أن تخلق المواطن الصالح للمجتمع، ولو تغير النظام التربوي على هذا الأساس فمن الممكن أن توجه طاقات المتعلم إلى ما فيه مصلحة المجموع بدلاً من أن يتوجه سلوكه إلى ما فيه مصلحته وحده، ثم أن النفع أو الخير العام سيعود عليه بالنفع والخير لنفسه أيضاً. وركز كذلكالفيلسوف الألماني (نيتشه/Nietzsche) في خطاباته للشعب الالماني في إطار الحديث عن تصحيح النظام التربوي بعد خسارة المانيا في الحرب العالمية الثانية، فيرى أن التربية هي وسيلة حفظ الأمة، ويجب عليها أن تنبثق عن خصائص العصر الذي تعيش فيه، وعن خصائص الطبع الوطني، وعليها واجب التأثير في العصر والمساهمة في تنمية الخصائص الوطنية.

ونتساءل هنا،ونحن في العالم العربي، هل التربية العربية توجه طاقات المتعلم إلى ما فيه مصلحة المجموع بدلاً من أن يتوجه سلوكه إلى ما فيه مصلحته وحده؟ وهل التربية العربية تنبثق عن خصائص العصر الذي تعيش فيه، وعن خصائص الطبع الوطني؟ وهل التربية العربية مؤثرة في العصر وتساهم في تنمية الخصائص الوطنية؟ ومن المؤكد أن من أهم وأخطر خصائص العصر الذي نعيشه سيادة مفاهيم التعصب والفكر المتطرف، الذي دفع العديد من مكونات المجتمعات العربية إلى ترك أوطانها والهجرة بسبب ما مورس عليهم من اقصاء، وعنف وسبي للنساء، والاستيلاء على أملاك، وغير ذلك من سلوكيات بسبب نبذ الآخر واقصاءه ، انطلاقا من فكر متطرف، وخير دليل على ذلك ما حصل ويحصل في سوريا والعراق. فما هو التعصب ومن هو المتعصب؟

التعصب: توجهات ومعايير فكرية يحملها الانسان تجاه موضوع ما، قد يكون هذا الموضوع مذهب أو توجه سياسي معين، أو شخص ما. يصدر المتعصب أحكام وتصرفات غير عقلانية وغير موضوعية، وبحماس انفعالي مفرط ومتطرف يتجاوز الحدود الطبيعية، ويحتكم المتعصب إلى معايير صارمة للغاية وبتسامح قليل جدا تجاه الأفكار أو الآراء أو الاشخاص المعارضين. والمتعصب انسان أعمى مغيب عن الواقع، يظهر استعدادا لاضطهاد الآخر وفقا لمرجعية عقائدية أو اجتماعية أو اقتصادية أو عرقية الخ، وتحت شعارات متعددة. ومع أن هناك دعوات معاصرة لنبذ التعصب من قبل ذات الجماعات المتعصبة، لكنهم ينبذون التعصب فيما بينهم، في الوقت ذاته يمارسونه ضد من هم من خارج دائرتهم.

وانطلاقاً من أهمية الأسرة كلبنة أساسية في بناء المجتمع، وباعتبار دورها المحوري كمؤسسة تنشئة اجتماعية تخرج أبناءها إلى المجتمع الأكبر فلابد من أن تكون التربية الاسرية في المجتمعات العربية تربية متوازنة تجمع بين صالح الفرد والمجتمع ككل.والسؤال الذي يفرض نفسه هل الأسرة في المجتمعات العربية قادرة ومؤهلة ومتمكنة من الايفاء بمتطلبات التربية المتوازنة للنأي بأبنائها عن تيارات الفكر المتطرف وتربيتهم على التسامح والعيش المشترك وقبول الآخر واحترام الرأي المخالف وبالتالي الدفع بالمجتمعات العربية إلى بر الآمان؟

وللاجابة عن هذا التساؤل لا بد من تشخيص واقع الأسرة في المجتمعات العربية.ولا نبالغ إن قلنا بأن التحديات التي تواجه الأسرة في المجتمعات العربية هي الأشد ضراوة مقارنة بما هي عليه الأسرة في باقي المجتمعات الانسانية.

دعونا نتفق بداية على بديهية أن الأسرة العربية هي نتاج أنظمة تعليمية على مستوى المدراس والجامعات. وأقل ما توصف به أنظمتنا التربوية أنها لا تتماشى مع متطلبات العصر، فغياب وجود فلسفة وفكر تربوي عربي أصيل، وغياب سياسات تربوية عامة تأخذ بعين الاعتبار الايفاء بمتطلبات العصر وتحدياته، ولا تأخذ بعين الاعتبار تطوير الطبع الوطني، وخير دليل على ذلك لا تد أسم جامعة عربية ضمن قوائم أفضل 500 جامعة في العالم، وعدد العاطلين عن العمل من خريجي الجامعات ومستوى مهاراتهم الشخصية ومستوى تأهيلهم الثقافي والاكاديمي كل ذلك مؤشرا ت على وضعية الانظمة التعليمية ومواصفات خريجيها اللذين هم آباء وأمهات المستقبل فاهتمامتنا بالشأن التربوي اهتمامات خطابية على الأغلب نادرا ما تمارس على أرض فهي على المنابر وفي المحافل، وعند التطبيق القلة القليلة هي المهتمة بجوهر التقدم التربوي.

إن مستوى التدريس في كليات العلوم التربوية تعتمد على نظريات تربوية بالية لم تعد تستخدم في المجتمعات التي نشأت وانطلقت منها، هذا عدا عن أساليب التدريس والتقييم، وتأكل الخطط الدراسية، وتقادم محتوياتها الدراسية كل ذلك ينعكس على مدخلات وعمليات ومخرجاتها من معلمي الغد. مسؤولون عن تربية وتعليم أبناءنا في المدارس.

هذا وتعاني الأسرة في المجتمعات العربية من ظروف معيشية صعبة، تهميش المرأة والشباب، وسوء العلاقات الأسرية، وارتفاع معدلات الطلاق، وارتفاع نسبة البطالة، والاهتمام بالقيم المادية على حساب القيم الانسانية، كل ذلك أثر في مدى تماسك الأسرة وما زال يؤثر وسيزداد تأثيره في المستقبل القريب، أن لم تكن هناك سياسات وطنية داعمة للاسرة. فالأسرة الفقيرة الضعيفة هي أسرة مفككة تنتج مجتمعا هشا، يفتقر الى مقومات القوة والشباب فيها معرض للانهيار أمام الهزات الاجتماعية. وخاصة انتشار الفكرالمتطرف القائم على التعصب، والتراجع والانغلاق والتخلف وعدم مسايرة التطور الانساني الحضاري العام،الذي يعلي من شأن حقوق الانسان ومبادىء الديمقراطية وفضائل المواطنة المتساوية. على قاعدة الحقوق والواجبات. وهذا أمر خطير لا بد من مواجهته كونه من التحديات الكبرى التي تعصف بالأسرة في المجتمعات العربية.

ثم أن تلاشي الدور التوجيهي والارشادي التربوي للأسرة في المجتمعات العربية وانسحابه أمامرياح الفضائيات، وشبكات التواصل الاجتماعي، والشبكة العنكبوتية وهشاشة نظم المتابعة الرسمية، جعل تأثير تلك المؤسسات يفوق تأثير التربية الاسرية.

الأسرة العربية كما هو الحال في كل مجتمعات العالم هي امتداد طبيعي للأسر في المجتمعات القديمة بموروثها الثقافي، الذي يحمل في طياته العديد من العناصر السلبية التي ما زالت تعمل كموجه للأباء في تربية الأبناء، فتسلط الآباء في المنازل، وتسلط رجال الدين والتسلط السياسي في المجتمع، مع غياب حرية التفكير والتعبير عن الرآي، جميعها عوامل تشكل قيود على تفكير الانسان العربية، وتؤدي الى الانغلاق واستمرار تأثير الماضي فينا وماعلق بتراثنا من شوائب فكرية ثقافية عقائدية عبر العصور، لم تعد مناسبة لخصائص العصر وتحدياته.

تعتبر الأسرة في المجتمعات العربية جزء من المجتمع ككل، فالفكر السائد في الدولة لا يقف عند حدود المؤسسات السياسية أو مؤسسات المجتمع المدني أو القطاع الخاص، بل ينسحب كل ذلك على الأجواء الأسرية وثقافة الوالدين وبالتالي ثقافة الأبناء، وهنا نستذكر اشكالية نعيشها اليوم تتعلق بالتساؤل المشروع في مسار النهضة، ألا وهي إشكالية الدولة المدنية أم الدولة الدينية، وما يتبعه من تفضيلات المواطنة المتساوية الحقوق، أم الأكثرية الدينية والأقلية، وما التعصب في جوهره إلافكر منحاز منغلق، يعلي من شأن فكرفئة اجتماعية معينة على حساب فئات آخرى يؤدي إلى اقصاء الآخر وفقا لمرجعيات عقائدية،وطائفية،وعرقية،وجنسية، وطبقية-اجتماعية-اقتصادية.

أما بخصوص التحديات الخارجية التي تواجه الأسرة في المجتمعات العربية فقد نوهت لها في معرض الحديث السابق ولكن سأتناولها بشء من التفصيل.

يتفق معظم المفكرين والمثقفين أن للعولمة وخاصة العولمة الثقافية تحمل في طياتها جوانب سلبية تماما كما تحمل بعض الايجابيات، فالفكر الإستعلائي لصالح دولة القطب/أمريكا، وفكر اقصائي للحضارات الانسانية الأخرى المعاصرة، وأن للعولمة قدرة على انتاج وتوظيف التقنيات الحديثة المختلفة سواء عبر وسائل الاعلام والشبكة العنكبوتية أو عبر الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، لبث أفكارها ضمن عمل مؤسسي ممنهج ومدعوم ماديا بميزانيات ضخمة، وسياسات وأدوات تحكم مختلفة؛ قد اخترقت الأسرة العربية في عقردارها، وتستقطب الشباب بكافة مرجعياته، لتحقيق مصالح معينة ومن أشدها خطورة نشر الفكر الارهابي.

السؤال الأهم الآن: كيف تواجه المجتمعات العربية التحديات المعاصرة في مسار تربية الأبناء على التسامح ونبذ التعصب؟ إن السبل متعددة ومتسعة أفقيا وعموديا،واخترت منها هنا ما يتناسب وأهداف المقال فقط، نعرضها وعلى مستويين: المستوى الأول ما يتعلق بدور الأسرة في المجتمعات العربية، والمستوى الثاني يتعلق بمستوى العمل المؤسسي الوطني والعمل العربي المشترك.

أولاً: مقترحات تمكين الأسرة في المجتمعات العربية:

1- تسلح الأهل ونقصد الآباء والأمهات بالمعرفة الكافية بأصول التربية المتوازنة. وتصحيح الفهم الخاطيء لترك الطفل على طبيعته وعدم التدخل في تربيته، واحلال احترام الطفل، وتلبية احتياجات النمو السليم وفقا لطبيعة المرحلة العمرية واحتياجاتها من المعرفة والتوجيه السليم لتقديم الدعم المعنوي لضمان طفولة سليمة صحيا ونفسيا ومسلكيا، وصولا لمرحلة مراهقة آمنة، ومرحلة شباب متوازن في انتماءاته وتوجهاته وما يحمله من قيم وأفكار تجاه الاخرين.

2- توفير القدوة الحسنة في التفاعل الأسري،والقائم على الالتزام بالحوار السلمي واحترام الرأي المخالف وتهيئة الأبناء لممارسة الفكر الديمقراطي وقيم المواطنة.

3- خلق أجواء أسرية مستقرة والتعامل مع الأبناء على أساس من المساواة والعدل وحفظ كرامة الانسان.

4- تنمية ثقافة احترام التنوع فهو أساس للثراء الثقافي والانتاج والعيش المشترك.

5- الاستماع الى الأبناء، وإطلاق حرية التفكير والتعبير وطرح الأسئلة واستخدام التفكير الناقد.

ثانيًا: على مستوى العمل المؤسسي وطنيًا، والتنسيق لعمل عربي مشترك:

1- تعاون تربوي عربي مشترك للخروج بفلسفة تربوية عربية لعصرنة العمل التربوي، تنطوي على منظومة القيم الأخلاقية، واحترام العلم والعلماء، والايمان بالبحث العلمي في حل المشكلات، وتقدير الوقت، لبناء شخصية الأجيال المتعاقبة القادرة على الاستمرار ومواجهة ما يعتري المجتمعات العربية من تراجع وضعف وتحديات وجودية.

2- اصلاح نظام التعليم العام والتعليم الجامعي، على أسس تضمين المحتويات الدراسية كل ما يتعلق بإشكاليات فكرية معاصرة، ومشكلات حياتية يومية،وقضايا جدلية.

3- تطوير برامج إعداد المعلمين في كليات العلوم التربوية، و تطوير وسائل التعليم والتقييم، واعتبار مادة مدخل للتربية متطلب جامعة الزامي للطلبة في كافة التخصصات، كي يتمكن الخريجون كافة من تربية أبنائهم في المستقبل القريب، وفق أسس تربوية علمية سليمة. وإدراج مناهج تعليم حقوق الإنسان في الجامعات العربية، واعتماد منهج مشترك في مساقات كليات كل جامعة.

4- غربلة التراث العربي بما علق به من شوائب فلسفية فكرية عقائدية.

5- تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني لتشكل قوى ضاغطة نحو التعيير الايجابي ومناهضة التعصب.

6- فتح قنوات التواصل بين أصحاب القرار، وكل من المثقفين والعلماء والباحثين، كي تستند قراراتهم في الشأن التربوي الى رؤى شمولية منفتحة.

7- تمكين المرأة العربية وتأهيلها تربويا، وثقافيا بما يجعلها قادرة على احداث التغيير المطلوب داخل أسرتها، والاعتراف بأهمية دورها في مسار التنمية الشاملة باعتبار تأثيرها نوعيا وعدديا.

8- دعم المؤسسات البحثية في المجال التربوي وإعطاء الأولوية للمشاريع البحثية في مجال العيش المشترك ومناهضة الارهاب.

9- تشكيل هيئة وطنية لمتابعة نتائج الابحاث العلمية وايصالها للجهات المعنية.

10- تمكين معدي البرامج الاعلامية وتأهيلهم ثقافيابما يتناسب مع فهم جوهري عميق للتحديات الوطنية وروح العصر وخصائصه.

11- تطوير التشريعات القانونية وتغليظ العقوبات على كل من يدعو إلى أو يمارس التعصب ونبذ الآخر واقصاءه. واعتبار قضية العيش المشترك قضية وطنية أمنية ترتبط بالوحدة والاستقرار الوطني.

د. صفاء الشويحات، بروفسور مشارك في الجامعة الالمانية الاردنية وباحثة تربوية

دكتور صفاء شويحات بروفسور مشارك في اصول التربية. عضو هيئة تدريس في الجامعة الالمانية الاردنية، ومستشار التطوير التربوي لوزارة التربية والتعليم الاردنية ٢٠١٩. مستشار الخطة الاستراتيجية للشباب الاردني، ومستشار قطاع العلوم الاجتماعية والانسانية في المجلس الاعلى للعلوم والتكنولوجيا. حاصلة على الزمالة الامريكية في التعليم المدني 2010، ولديها العديد من المقالات والمؤلفات والدراسات العلمية المنشورة في دوريات علمية محكمة. حاصلة على درع عضو هيئة التدريس المتميز عن اعدادها لأول مساق تعليم إلكتروني مدمج في الجامعات العربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى