اجتماعاجتهادات

مسرحنا العبثي: مقاربة لمجريات الأمور في لبنان. | البروفسور سمير مطر

مسرحنا العبثي: مقاربة لمجريات الأمور في لبنان.
الهدف من هذه المقالة هو وصف السلوك المجتمعي-  السياسي الحالي في لبنان عن طريق المقاربة مع مسرح العبث الحديث.
تعريفات
 العبث: # تبحث عبثا: بلا جدوى، أو بغير طائل – من العبث أن: لا فائدة من أن… # ارتكاب أمر غير معلوم الفائدة، ليس فيه غرض صحيح لفاعله. # حالة يكون فيها وجود البشر في الكون غير منطقي ولا معنى له .ايضا هنالك أنواع كثيرة من العبث، منها: *عبث السكران أو الفاقد عقله*عبث الدين أعتقد لأنه عبثي، ذلك لان الايمان يتحدى و يضحد مقاربة العلم و اي تفسير ينجم عنه *العبث المرتبط بغياب المعنى* عبث السلوك: أفراد عقلانيون ، من خلال عمليات جماعية أو معرفية ، يفعلون شيئًا سخيفًا عبثيًا تمامًا…
 العبثية ولدت الى حد ما بمحازات الفلسفة الوجودية، التي أبصرت النور في القرن العشرين في اوروبا مع جان بول سارتر الذي تبع ارثر شوبنهاور الفيلسوف الالماني في عصر الانوار، الموصوف بالتشاؤمي من الوجود حيث الانسان يراوح ما بين الالم و اليأس. بعيدا عن الاديان السماوية كالمسيحية و اليهودية، وجد شوبنهاور مساره في البوذية و هو يعتبر من أوائل الفلاسفة الذين تقربوا من تلك الفلسفة الحياتية. ايضا اود ان الفت النظر الى علميين فيزيائيين وجدوا انفسهم من خلال البوذية مثل ارنولد شرودنغر و ديفد بوهم…
* الوجودية تعني ان لا عالم و لا حياة الا ما نعيشه بين الولادة و الوفاة، دون اية ماورائيات. في صلب هذا المنحى الفكري ، الإنسان يولد كائنا له وجود مادي فحسب، دون جوهر ، وعليه ان يبني هذا الجوهر خلال مسيرته الحياتيه؛ و ذلك خلافا عن الحيوان ذي الجوهر المبني او دعونا نقولها “المبرمج من قبل الطبيعة” منذ بدء الازمنة. اذا الانسان حر في خياراته ؛ من هنا فهو مسؤول عن تصرفاته. طبعا هناك فكر مضاد يدحض الحرية لدى الانسان الذي يكون عندها مسيرا كما تقول فلسفة سبينوزا. لماذا؟ لأن كل عمل تقوم  به ينجم عن قرار غير حر، مكيف بامور اخرى لا نملك السيطرة عليها مثل ان نكون في حالة مرضية نفسية او صحية معينة…
إذا بالنسبة للوجودية المطلقة، عند الموت تتحد الجزيئات من جديد مع الطبيعة و بذلك يكون ابديا مثلها… هذا التوجه بالفكر يناقد بالطبع الاديان السماوية ، خاصة المسيحية التي تعطي الانسان البعد الروحي و الرجاء بالاخرة و القيامة بالاتحاد مع المسيح.
ايضا، في الوجودية المطلقة، الوعي بغياب معنى للحياة يحل محل الشعور بالامتلاء الذي يتصف به الانسان المتكامل مثل المؤمن بالخلاص الأبدي. بالنسبة للوجودي، اي هدف غائب و كل شيء عبثي. 
من هم العبثيون؟ العبثيون هم مجموعة من الأدباء الشباب الذين تأثروا بنتائج الحروب العالمية فلحظوا أن جميع النتائج التي نجمت عن تلك الحروب هي سلبية لأن خلقت نفسية سيطر عليها انعدام الثقة في الآخر. من هنا  انعزالية الإنسان. وفرديته. من أعلام هذه المدرسة ألبرت كامو و صامويل بيكت.
 بيكت كتب مسرحية “بانتظار غودو” و قد اعتبرت مسرحيته هذه مثالا نموذجيا لمسرح العبث و تستخدم عبارة” بانتظار غودو” لوصف موقف حيث ينتظر حدوث شيء ما، ولكن على الارجح الا يحدث ذلك بتاتا. هنا ولد الادب و المسرح العبثيان حيث اللغة محرومة من غاياتها الا و هي التواصل والمعنى. انها تستهلك نفسها وتتفكك. طبعا هذا يختلف عن المسرح الكلاسيكي الذي يمثل صورة المجتمع و كوميكو-دراماته ،و ذلك منذ اليونان القديمة مع مسرحيات ديموقريطس الذي كان يقول ان “العالم مسرح و مشهد و الحياة تمثيلية و مسرحية” ، إلى العصر الحديث مع شيكسبير وموليير. 
هذه المقدمة، كما ارجو ان يكون القارئ قداستوعبها، ما هي الا لكي توضح ان المسرح غايته ان يكون صورة للمجتمع و العكس ايضا صحيح، اي ان المجتمع بمكوناته انما هو يلعب دورا على خشبة المسرح في المسرحية التي يعيشها…

مسرح لبنان.
لبنان ، هذا البلد الصغير الذي دعته فرنسا لبنان الكبير في عام 1920 يحتفل اليوم بالمئة الاولى. انه يبحث عن هويته منذ ذلك الحين ، وينعكس هذا أيضًا على المواطن. في وقت سابق كان لبنان يسمى سويسرا الشرق الأوسط. اعطي من ذلك الحين هوية البلد ذي “الوجه العربي”. و لكن هذه الهوية التي تاتي على قياس هذا البلد الاصغر بين اخوانه العرب و المتعدد الثقافات و الديان، هذه الهوية  لم تتقبلها الدول العربية. و قد عانى من النزوح الفلسطيني و من ارتدادات حروب الاخرين: حرب قناة السويس بين مصر من جهة و الانكليز و الفرنسيين من جهة اخرى في ١٩٥٦ ؛ حرب الايام الستة في  ١٩٦٧ و ايضا حرب مصر/ إسرائيل في  ١٩٧٣ و اخيرا الطامة الكبرى: الحرب المسماة “بالأهلية” من ١٩٧٥ الى ١٩٩٠. ذلك لأنها بدأت بللاجىء الفلسطيني الذي حمل السلاح و استعمله ضد مضيفه اللبناني، و بعد ذلك انزلقت الامور الى حرب اهلية.
هذه الحروب العبثية انهكت البلد  الصغير الكبير الذي كلما بادر لبناء نفسه اتت حروب الاخرين على مشروع البناء، زد على ذلك استزلام السياسيين لبلد عربي او اجنبي و التزامهم بتنفيذ مشاريع لأجندات غير لبنانية…. أثر كل هذا على تعريفه كلبنان وطن نهائي لجميع مواطنيه. راينا هذا بشكل مطرد منذ أن انتهت الحرب في ١٩٩٠ باتفاقية الطائف و صنف لبنان انذاك كدولة عربية. لكنها في الواقع هي دولة تخضع للتأثيرات العرقية والدينية للسنة (المملكة العربية السعودية) والشيعة (إيران وقطر). أما المسيحيون فهم منقسمون بين الانتماءات ، ولها سقف ولاء لفرنسا والغرب بشكل عام…. في مقال حديث عن مشكلة الهوية اللبنانية (الملف الاستراتيجي) ، قمت بتطوير هذه المشكلة من خلال التأكيد على الفرق بين الرعايا والمواطن
في هذا النهج. و قد ركزت على السلوكيات المختلفة للبناني في لبنان وفي الخارج فيما يتعلق بتعريف الهوية وسلوكه باعتباره من أتباع الزعيم أو حزب سياسي …
هناك ازدواجية في البحث عن هوية، قريبة من العبث.
لسنوات عديدةومؤخرا بطريقة تفاقمية نظرا للأزمة الاقتصادية الكارثية ، يشعر المواطن اللبناني إنه مهجور ومتروك لوحده. لم يعد يشعر بالحماية ، ولا يثق بحكامه. ونتيجة لذلك ، فإن غريزة بقائه تجعله يتجه نحو الوجودية الأنانية. ينجرف بعد ذلك نحو العبث في سلوكه وحياته في المجتمع ,و يبحث عن تعريف جديد لنفسه. 
إنه العبث المرتبط بغياب المعنى الموصوف آنفا. 
 
في الأساطير اليونانية مثل هذه العبثية معروفة و موثقة في”  أسطورة سيزيفوس” في الميثولوجيا اليونانية. حيث سيزيفوس النصف اله،  حكم عليه من كبير الالهة  زيوس بان يدفع بصخرة كبيرة الى قمة الجبل ثم يتركها تتدحرج الى الاسفل   لعيد الكرة مرارًا وتكرارًا ، بدون أدنى معنى. 

نستطيع أن نشبه لبنان بمسرح العبثية حيث الممثلون كثر (اكثر من اللازم)، يتكلم كل  واحد على حدى، بخطاب لا يمت للحقيقة (المريرة) بصلة ما. كلمات تدور حول نفسها مكتفية بذاتها و لا تعبر إلا عن خيال واسع. 
الممثلون هنا هم السياسيون.
 المشاهد، هنا هو  المواطن. انه المسكين الذي يسمع الكلام الكثير الآتي من كل صوب (من حاكميه، احزابه، …) و يضيع في خضم هذه العبثية . 
 يبكي بعض الشيء و يضحك بحرارة في حين آخر. كيف لا و هو يعيش و يفهم ان مسرحية العبثية التي يشاهد ممثليها  انما يعيشها كل يوم و الممثلين ما هم الا القابضين على البلاد و العباد …
اذن، من هو غودو في هذا السياق؟ المقاربة الاصوب هي ان غودو هو لبنان الجمهوريةالحضارية الحاضنة لجميع أبنائها. هي الدولة التي يحترمها ويعتبرها جيرانها الاقرب و الابعد و لا يتعدوا عليها لا سياسيا و لا حربيا، لانها قوية بابناءها ذي الانتماء اللبناني المحض.
هل انتبه القارئ انني كلما وصفت لبنان بالمرادفات المضافة اليه، كلما ابتعد عن المرمى المنظور؟
 الكل ينتظر غودو و الكل يتكلم عنه شرقا و غربا، شمالا و جنوبا و لكن منذ ١٠٠ سنة و نحن نبحث عنه.
و خلافا عن صامؤيل بيكت الذي انتهى به الامر الى التخلي عن البحث عن غودو، ادعو الجيل اللبناني الجديد الى التخلي عن العبثية في المسرح اللبناني و البدء بكتابة صفحة جديدة لمسرح غير عبثي حيث يبنون لبنان الجمهورية الجدية.
 

البروفسور سمير مطر، باحث في العلوم ورئيس الجامعة اللبنانية الالمانية

الدكتور سمير مطر (لبناني وفرنسي) حاصل على درجتي دكتوراه في الكيمياء والعلوم الفيزيائية (المواد والعلوم الجزيئية: التجربة والنظرية) من جامعة بوردو (فرنسا) حيث قام بالجزء الرئيسي من مسيرته الأكاديمية مع نشر عدة كتب تعليمية للطلاب الجامعيين والخريجين في الفيزياء والكيمياء والعلوم الحاسوبية وأكثر من 331 ورقة علمية (اكثر من 10 ٪ استشهادات ( 40 مرة) ونصفها استشهدات 10 مرات، ما مجموعه 5300 استشهاد بمتوسط 370 استشهاد ضمن بحث علمي في السنة) ؛ حامل عدة براءات اختراع وله 80محاضرة في المؤتمرات العلمية حول العالم. على مدى 12 عامًا متتاليا" ، تم تعيين مطر مديراً لمركز "الحوسبة العلمية المكثفة" من قبل أربعة رؤساء متتاليين من جامعة بوردو ، بمشاركة حوالي 100 باحث من جميع المجالات. حصل على الامتياز كما "Palmes Academiques" من قبل الحكومة الفرنسية في عام 2016 لمساهمته الكبيرة في مجال التعليم العالي. وفي لبنان ، حصل في عام 2018 على "جائزة التميز المهني في البحث العلمي" من الجمعية اللبنانية لتقدم العلوم. كخبير زائر ، تم الترحيب بالدكتور سمير مطر في جامعات أوروبا (النمسا ، ألمانيا ، السويد ، المملكة المتحدة) والأمريكتان (كندا ، الولايات المتحدة الأمريكية) حيث ألقى محاضرات وأجرى أبحاثا" علميًة بالتعاون مع علماء مشهورين ، بعضهم من الحائزين على جائزة نوبل. يشغل مطر حاليا" منصب رئاسة الجامعة اللبنانية الألمانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى