اجتماعاجتهادات

مواطنون أم رعايا؟ أفكار متناقضة ومجتمعات متباينة. للبروفسور سمير مطر

للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

مواطنون أم رعايا؟
بقلم الكاتب والباحث الأكاديمي/ د.سمير مطر
1- أفكار متناقضة ومجتمعات متباينة
لقد لاحظت خلال مسيرتي العلمية وعلاقاتي الاجتماعية مع مواطنين في كل من انجلترا وفرنسا، أن ثمة فروق بين كلا المجتمعين. ولكن يمكن القول بأن المفارقة الكبرى حدثت في عام 1789 حيث قيام الثورة الفرنسية وتحول الفرنسيون من مجرد كونهم رعايا للملك لويس السادس عشر آنذاك إلى مواطنين يعيشون في جمهورية، فمصطلح (الجمهورية) Republic
Res-Publica اشتق في الأساس من كلمة
والتي تشير إلى العامة.
ويمكن النظر إلى ذلك الحدث التاريخي الهام من منظور علمي باعتباره نقلة نوعية خلفت ورائها العديد من الضحايا وأحدثت تغييرات جذرية في مسيرة البشرية. ولكنها أخذت وقتا طويلا من الاستبداد.
في الوقت نفسه في انجلترا فإنه يمكن القول بأن المواطنين ظلوا رعايا لصاحب أو لصاحبة الجلالة وانخرطوا في ثورات من نوع آخر. وهي الثورات الصناعية التي قدمت للعالم العديد من الاكتشافات الثورية مثل الكهرباء. وبطريقة ما ارتبطت الجنسية الانجليزية ضمنيا بالغطرسة والمفاخرة والمثل الشهير القائل “شخص يولد وفي فمه ملعقة من ذهب” فأولئك الرعايا يظلون تابعين لحكامهم ، وبعضهم يزعمون أمام الجميع بأنهم ينتمون إلى مدرسة أرسطو الفلسفية. بالطبع، فإن هذا الفكر قد عفا عليه الزمن ولكن لازال هناك قلة ممن يتمسكون به كما سنرى في مضمار آخر.
وبالرغم من أن الهدف الأساسي للثورة الفرنسية قد تمثل في الأساس في فصل فرنسا عن الكنيسة الكاثوليكية -التي كانت تعتبر فرنسا بمثابة ابنتها المفضلة- ورفع شعار العلمانية، إلا أن إعدام لويس السادس عشر لم يقضي تماما على الملكية، فقد ظل أتباع الملك يقاتلون على نحو ميؤوس منه من أجل استمرار سلطة الملك. لقد كان لويس الثامن عشر هو آخر الملوك في فرنسا ولكنه عاش دون سلطة فعلية وتوفى عام 1824 في باريس. وكان تابعو الإمبراطور أو الإمبراطورية بشخص نابليون بونابارت (1804) ثم الثاني والثالث. كل ذلك قبل أن تتموضع الجمهورية بشكل نهائي.
ومن ثم بدأ الفرنسيون في رفع شعارات العلمانية التي تمثلت في ثالوث جديد يتألف من:الحرية، المساواة، الأخوة. وبالحديث عن المساواة، فإنه يجب الإشارة إلى مبدأ تكافؤ الفرص. وهنا يجب ألا ننسى
الفروقات السيكولوجية والفسيولوجية بين البشر والتي تميزهم منذ لحظة ولادتهم وبالتالي فالجميع مختلفون عن بعضهم البعض ولكن يجب أن يحظى كل منهم بفرصة مناسبة تؤهله للنجاح، فالإنسان ما هو إلا مشروع بشري ينبغي تطويره يوما بعد يوم، ومن أبرز أوجه هذا التطوير هو التحاق العامة بالوظائف والمناصب العليا التي طالما كانت محجوزة للنبلاء وأبناء الطبقة الأرستقراطية فقط.
ومن ثم فإن المبادئ الإنسانية الجديدة تحكم على الفرد من منطلق عمله وإنتاجيته وليس لوضعه الاجتماعي وتصنيفه عند ولادته، وهذا ما أوصى به إنجيل متُّى أيضا (Matthew 25, 14-30) في حديثه عن المواهب والقدرات البشرية، في مثل الوزنات المعطاة لكل واحد منا.
وتلك هي النقلة النوعية من المدرسة الأرسطوية الفلسفية والفكرية إلى فلسفة جديدة تضع المواطن على قائمة اهتماماتها، وذلك على عكس ما كان سائدا في الماضي من وضع الملك أو الحاكم فقط في دائرة الاهتمام.
ويجب ألا ننسى أن الملك لويس الرابع عشر كان يلقب بـ (ملك الشمس)
(le Roi Soleil). وكان محاطا بقلة من صفوة المجتمع، أما ما دون ذلك فكانوا مجرد رعايا في مملكته. وبالتالي فقد كان قيام الثورة الفرنسية بمثابة الإطاحة التامة بمبدأ تعظيم الحاكم وألوهيته في نفوس رعاياه. وأخيرًا ، فإن المصطلحين الآخرين لما أسميته بـ (الثالوث الجمهوري) ، الحرية ، وقبل كل شيء الأخوة ، هي أيضًا قيم مسيحية.
2- المواطن العالمي
لبناني الأصل، وفرنسي الجنسية، أشغل منصبا علميا مرموقا وقد وُفقت أيضا في أن أكون منتخبا عن الشعب في منطقة بوردو، ولهذا فأنا حقا أفخر بكوني مواطن لبناني فرنسي. وإن كنت أفضل أن أعتبر نفسي مواطنا عالميا ، وهذا ما تعلمته من معلمي الراحل Professor Paul Hagenmuller
الأستاذ بجامعة بوردو منذ قرابة 40 عام ، وقد كان أستاذي ينتمي إلى منطقة الألزاس وهذا أمر ليس سهلا نظرا لما تشكله تلك المنطقة من خصوصية إقليمية، فقد كانت محل نزاع لفترات طويلة بين كل من فرنسا وألمانيا، والجدير بالذكر أنه قد تمكن من النجاة من معسكرات الاعتقال الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية.
لقد نجح بروفيسور هاجن مولر في بناء شبكة علاقات اجتماعية تمتد إلى روسيا وحتى الهند الصينية خلال حقبة الستينات، وهذا ما ساعده في تعزيز وترسيخ مكانته العلمية كسائر العلماء مثله، ما ساهم في منح فرنسا تلك المكانة العلمية المتميزة حول العالم بفضل جهود أبنائها.
إن كونك مواطن عالمي، هو أمر يصعب ممارسته وتطبيقه بالكامل، حيث يجب اكتساب تلك المهارة والعيش على تلك الشاكلة بقناعة تامة. فالمواطن العالمي لديه رؤية واسعة النطاق للعالم من حوله، لديه فهم عقلاني عميق لكل من الجوانب الطبيعية والإنسانية في الحياة، وهما في الحقيقة يكملان بعضهما البعض.
وهذا الطرح يأتي في سياق النظرية الاجتماعية لـ Clare Graves
التي تتحدث عن الديناميكات اللولبية، ‘Spiral Dynamics’
حيث الفرد منذ هذا المنطلق كي يتمكن من تحقيق مكانة عليا في المجتمع، عليه أن يصل إلى مستويات عليا من الإدراك والوعي بصورة تدريجية، تجاه نفسه ثم في مجتمعه بشكل تصاعدي ومن ثم يصبح إنسانا نظاميا systemic
لديه القدرة على تنسيق علاقاته الاجتماعية والتصالح مع الذات بقناعة راسخة وفعلية. وهذا لا يأتي بين عشية وضحاها بل هو نتاج جهود كبيرة طوال الحياة. وتلك الرؤية أود حقيقة أن ألفت نظر قادة العالم إليها من أجل حكم أفضل في المستقبل.
3- المواطن اللبناني
بعيدا عن ازدواجية المواطنين /الرعايا التي تم طرحها في السطور السابقة، أود أن أتوقف قليلا عند المواطن اللبناني باعتباره حالة خاصة فيما يتعلق بقضية الهوية. فهو يفخر ببلده دوما أمام الجميع، وحينما يغادر أرض بلاده فإنه يعلق العلم المزين بشجرة الأرز على حائط غرفته في أي بلد يسافر إليه. كما يسرد بفخر أمام الجميع أحداث ثورة أكتوبر 2019 وما عاشه لبنان خلال تلك الفترة، وقد سبق وأن تطرقت إلى هذه الأمر في مقال سابق تم نشره على موقع الملف الاستراتيجي StrategicFile.com في نوفمبر 2019.

الثورة اللبنانية في ضوء نظرية جوزيف شومبيتر “التدمير المبتكِر”

ولكن اللبناني في وطنه عادة ما يكون فردا من رعاع زعيمه أو قائده، يصوت له في الانتخابات التشريعية لمجرد اسمه الشهير وأسرته النبيلة، يدافع عنه باستماتة أمام منافسيه من منطلق مستواه الاجتماعي وتصنيف عائلته. نعم، لقد تكرر هذا المشهد كثيرا، حيث ينحدر هؤلاء القادة – زعماء الأحزاب السياسية- من اصول وعائلات معروف عنها أنها “وُلدت بملعقة ذهب في فمها” وهذا النموذج يتشابه مع الطبقة الأرستقراطية في أوروبا قديما.
لكن النموذج الإقطاعي قد تغير منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية 1975- 1990 حيث ظهر ما يعرف بـ (أمراء الحرب) والذين لازالوا يحكمون البلاد حتى الآن. ناهيك عن وجود ثلاث ديانات و17 طائفة دينية، الأمر الذي منح الضوء الأخضر لرجال الدين بالتدخل في الحياة السياسية مما أفسد نظام الحكم في لبنان لسنوات. والجدير الذكر، فإن هذا الأمر لا يقتصر على لبنان فحسب بل يمتد شرقا.
ومنذ اتفاقية الطائف في عام 1989 لإنهاء الحرب الأهلية ووضع دستور جديد للبلاد، تم الإتفاق على التقليص من صلاحيات الرئيس المسيحي الماروني لصالح رئيس الوزراء المسلم السني. ولكن لا رؤية شاملة ونظامية (systemic) تم اتباعها لإدارة البلاد. ومنذ قرابة 30 عام والفساد ينخر في جسد الأمة اللبنانية، فالجميع يعمل تحت مظلة دينية مذهبية، وتراكمت الديون حتى أصبح لبنان الثالث عالميا من حيث ارتفاع حجم الدين العام.
وما زاد الأمر سوءا هو اندلاع الأزمة السورية في عام 2011 والتي خلفت نحو مليون لاجئ سوري في لبنان، مما أدى إلى تفاقم الأزمة وتردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد. ولا ننسى أبدا الجهود التي بذلتها فرنسا من أجل مساعدة لبنان وذلك من خلال خطط الإنقاذ المطروحة من قبل الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك (سيدر1 ،2، 3) ولكن للأسف فقد باءت جميعها بالفشل.
وبالنظر إلى الحكومة الجديدة بقيادة د .حسان دياب والتي تشكلت في ضوء المطالب الثورية في 17 أكتوبر 2019 بتأليف حكومة من الاختصاصيين، فإن المساعي الجارية حاليا تركز على الاقتراض من صندوق النقد الدولي للمساهمة في سد الدين العام.dimna khitta iktissadia ikazia
ويمكن القول بأن المواطن اللبناني بعد الثورة والذى عانى كثيرا بسبب انخفاض قيمة عملته الوطنية؛ قد أصبح مواطنا كاملا حيث لا حكومة ولا زعيم ولا مرجعية طائفية قادرة على إخراجه من ذلك الوضع الحرج.
وأخيرا فإنه يمكن القول بأن ازدواجية (المواطنون/الرعايا) والمترسخة بشكل أساسي تجعل لبنان في حاجة إلى التقدم الاجتماعي والمجتمعي. فقد تفاقمت أزمة الممارسة الديمقراطية في بلد تسيره النزعات الطائفية. نعم إنه وطن الأرز الذي بلغ مئويته الأولى هذا العام 2020 والذي لا يزال على طريق التأهيل لإنشاء مجتمع مدني يحظى بثقة الأجيال الجديدة في المستقبل. رغم كل ذلك، فإن اللبناني يبقى في قرارة نفسه متفائلا بمستقبل أفضل.

للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

البروفسور سمير مطر، باحث في العلوم ورئيس الجامعة اللبنانية الالمانية

الدكتور سمير مطر (لبناني وفرنسي) حاصل على درجتي دكتوراه في الكيمياء والعلوم الفيزيائية (المواد والعلوم الجزيئية: التجربة والنظرية) من جامعة بوردو (فرنسا) حيث قام بالجزء الرئيسي من مسيرته الأكاديمية مع نشر عدة كتب تعليمية للطلاب الجامعيين والخريجين في الفيزياء والكيمياء والعلوم الحاسوبية وأكثر من 331 ورقة علمية (اكثر من 10 ٪ استشهادات ( 40 مرة) ونصفها استشهدات 10 مرات، ما مجموعه 5300 استشهاد بمتوسط 370 استشهاد ضمن بحث علمي في السنة) ؛ حامل عدة براءات اختراع وله 80محاضرة في المؤتمرات العلمية حول العالم. على مدى 12 عامًا متتاليا" ، تم تعيين مطر مديراً لمركز "الحوسبة العلمية المكثفة" من قبل أربعة رؤساء متتاليين من جامعة بوردو ، بمشاركة حوالي 100 باحث من جميع المجالات. حصل على الامتياز كما "Palmes Academiques" من قبل الحكومة الفرنسية في عام 2016 لمساهمته الكبيرة في مجال التعليم العالي. وفي لبنان ، حصل في عام 2018 على "جائزة التميز المهني في البحث العلمي" من الجمعية اللبنانية لتقدم العلوم. كخبير زائر ، تم الترحيب بالدكتور سمير مطر في جامعات أوروبا (النمسا ، ألمانيا ، السويد ، المملكة المتحدة) والأمريكتان (كندا ، الولايات المتحدة الأمريكية) حيث ألقى محاضرات وأجرى أبحاثا" علميًة بالتعاون مع علماء مشهورين ، بعضهم من الحائزين على جائزة نوبل. يشغل مطر حاليا" منصب رئاسة الجامعة اللبنانية الألمانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى