منذ رحيل الأستاذ محمد حسنين هيكل أريد أن أكتب عن ذلك الرجل العظيم والقلم الجسور المبدع، ولكن في كل مرة يحرضني عقلي ويردني قلبي ولا يطاوعني قلمي.
وفى ذكرى وفاته السابعة أردت أن أكتب، وحدث ما حدث من قبل حرضني عقلي وردني قلبي وأبى سن قلمي أن يتحرك فوق سطح الورق.
وكان الحل الذي اهتديت إليه هو أن أختار مجموعة من صور الأستاذ هيكل (رحمه الله) للنشر.
ربما تكون الصور بمشاهدها أفضل ما يُعبر عن مسيرة الأستاذ حين يعجز القلم بحروفه واللغة بتعابيرها عن الوصف، فمسيرة الأستاذ محمد حسنين هيكل في اعتقادي أراها أكبر من أي قلم مهماً برع في الكتابة أو اجتهد في الوصف، لأن مسيرة هيكل (الصحفي والسياسي) في اعتقادي مرتبطة بجزء هام وحيوي من تاريخ مصر الذي هو أحد أهم الفترات المجيدة في تاريخ الأمة، كما أنه مرتبط بشخص ينطبق عليه ما قاله يوماً شيخ الثوار “لينين” «بأنه مثال حي على دور الفرد في التاريخ» وهو الزعيم خالد الذكر “جمال عبد الناصر”.
وتحضرني واقعة بين الرئيس والصحفي والسياسي والمثقف «ناصر» و«هيكل» هيكل لهم دلالة خاصة في المبنى والمعنى.
يقول الأستاذ:
كان ذلك في شهر فبراير سنة 1958… ذهب جمال عبد الناصر إلى دمشق التى أحبها من أول نظرة، حباً بقي معه إلى آخر لحظة.
كان قد وصل إلى دمشق- لأول مرة في حياته – بعد اتفاقية الوحدة، وكان قد انتخب رئيساً لسوريا – في إطار الجمهورية العربية المتحدة- بينما قدمه لم تطأها بعد.
وكان استقباله في عاصمة الأمويين مذهلاً.
ووقف في شرفة قصر الضيافة، بينما مئات الألوف يزحفون إلى الساحة الواسعة أمامه، بعد أن عرفوا بوصوله إليهم.
كان في الشرفة، وتحته بحر متلاطم الأمواج من الناس الذين ذابوا حماسة له، فلم يعد على الشفاه غير اسمه يدوي كالرعد ترتد أصداؤه على جبل قاسيون الذي يبدو من بعيد أمام الواقف في شرفة القصر.
ووقف ساعات، ويداه مرفوعتان بالتحية، ومشاعره هو الآخر ذائبة، كأنها ومشاعر الجماهير تيار يتدفق في مجرى واحد.
ثم دخل إلى قاعة مكتب تطل على الشرفة يستريح بعض الوقت ويشرب كوب ماء… أول قطرات من ماء بردى…
وسألني وأنا جالس بجواره:
– «هل رأيت…؟».
ثم استطرد:
– «ما هو رأيك؟».
قلت بأمانة:
– «لو أنك كنت شخصاً آخر غير من أعرف، لكنت فعلت معك كما كانوا يفعلون مع قياصرة روما بعد الفتوحات وهم يمشون في مواكب الاحتفال سكارى بالنصر، كانوا يضعون أشخاصاً بجوارهم وخلفهم يهمسون لهم في كل لحظة: (تذكر أنك بشر) … لكنى معك لا أحتاج أن أقولها».
وكان رده على الفور:
– «غريبة… لقد كنت أفكر في شيء من ذلك طول الوقت… لقد كنت أقول لنفسي وأنا أشاهد ما شاهدت:
لا تنس نفسك… هذا كله ليس لشخصك… ذلك كله لأمل عند الناس في الوحدة… وما لك فيه هو بمقدار إخلاصك لهذا الأمل».
كانت تلك واقعة واحدة.
ولا أجد ما أختم به كلماتي عن الأستاذ غير جزء من قصيدة أمير الشعراء “أحمد شوقي” الذي كتبها ليرثي بها شاعر النيل “حافظ إبراهيم”
قَد كُنتُ أوثِـرُ أَن تَقـولَ رِثائـي **** يا مُنصِفَ المَوتى مِـنَ الأَحيـاءِ
لَكِن سَبَقتَ وَكُـلُّ طـولِ سَلامَـةٍ **** قَـدَرٌ وَكُــلُّ مَنِـيَّـةٍ بِقَـضـاءِ
الحَقُّ نادى فَاِستَجَبتَ وَلَـم تَـزَل **** بِالحَـقِّ تَحفِـلُ عِنـدَ كُـلِّ نِـداءِ
وَدِدتُ لَو أَنّي فِداكَ مِـنَ الـرَدى **** وَالكاذِبـونَ المُرجِفـونَ فِـدائـي
الناطِقونَ عَنِ الضَغينَـةِ وَالهَـوى **** الموغِرو المَوتى عَلـى الأَحيـاءِ
مِـن كُـلِّ هَـدّامٍ وَيَبنـي مَجـدَهُ **** بِكَرائِـمِ الأَنـقـاضِ وَالأُشَــلاءِ
ما حَطَّموكَ وَإِنَّمـا بِـكَ حُطِّمـوا **** مَن ذا يُحَطِّـمُ رَفـرَفَ الجَـوزاءِ
أُنظُرُهُ فَأَنتَ كَأَمسِ شَأنُـكَ بـاذِخٌ **** في الشَرقِ وَاِسمُكَ أَرفَعُ الأَسمـاءِ