كيف تصرف عبد الناصر مع قرارات زكريا محيى الدين الاقتصادية؟ | كتب المحامي مجدي منصور
الكاتب السياسي مجدي منصور يكتب عن الأزمة الاقتصادية المصرية
لا يحتاج أي مُتابِع أو مُهتم أو مُنشغل بالشأن المصري أي مجهود كي يقول بضمير مُستريح ونفس مطمئنة وعقل مقتنع أن مصر اليوم ليست بخير. مصر اليوم مُجهدة، مُتعبة، مُرهقة، غاضبة، حانقة، متذمرة.
مصر اليوم تنتابها لحظات ألم من ماض قريب خُدعت فيه.إن الحالة المصرية اليوم حالة ضبابية تجمع ما بين الارتباك والاحباط والغضب.
ومصر تنتابها اليوم كذلك لحظات يمتزج فيها الخوف باليأس من مستقبل مُظلم مجهول تحتار في توصيفه وتشفق على نفسها وتجزع من استشرافه.
ولعل حال الشعب المصري اليوم يُشبه إلى حد قريب “أسطورة سيزيف” الإغريقية الشهيرة.
“فسيزيف”أو”سيسيفوس” (Sisyphus)كان ملكًا “عُوقب” في تارتاروس بأن “لُعـِن” بأن “يدفع” حجرًا لأعلى الجبل، ليراه بعد ذلك يتدحرج إلى الوادي، فيعود لدفعه أعلى الجبل تارة أخرى، ويظل يفعل ذلك إلى الأبد.
وكان سيسيفوس أحد أكثر الشخصيات مكرًا بحسب الميثولوجيا الإغريقية، حيث استطاع أن يخدع إله الموت (ثانتوس) وتكبيله، مما أغضب كبير الآلهة (زيوس)، فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا أبد الدهر.
والسيزيفية تعتبر كل مثال للنشاط غير الهادف والسعي المتخبط والفاشل والذي لا يصل إلى أي نتيجة.
وهكذا حال الشعب المصري كُتب عليه في كل عهد أن يعيد حمل الحجر لأعلى ثم يسقط الحجر ليعيد حمله من جديد ويصعد به إلى قمة الجبل!
والحجر هنا هو ما يسمى في كل العهود (من السادات وحتى السيسي) “عملية الإصلاح”، وما ينتج عنه من “غلاء” طاحن وفاحش يهرس قلب وعظم المواطن المصري تحت وطأته.
ففي كل مرة يُطلب من الشعب المصري تحمُل “ضريبة” الإصلاح من أجل أن “تعبر” مصر إلى “بر الأمان” مع ولى النعم وسيد كل عصرورمز التحدي وزعيم الشعب!
والغريب والعجيب والمحير أن عملية الإصلاح وما ينتج عنها من أعباء لا يتحملها إلا الفقراء المطحونين المعوذين بفقرهم وحاجتهم،
بينما الأغنياء المتخمين بثرواتهم وشهواتهم يزدادون غناء، ويزيدون في ظل ذلك الإصلاح المزعوم من ثرواتهم أضعاف مضاعفة من الملايين إلى المليارات.
وذلك أمر يثير الرثاء إلى حد البكاء ويتعدى حدود الشجن.
واليوم في ذلك الظرف الاقتصادي الصعب الذي تمر به البلادوالذي يحيط بالشعب من كل جانب كإسار مُلتف حول عنقه، يقول النظام:
أن تلك الأزمة العاصفة عائدةللظروف العالمية (كورونا أولاً، والحرب الروسية الأوكرانية ثانياً) وليس بسبب سوء إدارته هو للاقتصاد، كما يتهمه خصومه ومعارضيه.
ويضيف النظام:
أنه برغم كل ذلك فإن الاقتصاد المصري مازال واقف على قدميه، برغم معناته بالألم إلا أنه سيستريح بالمسكنات!
وبالأمس كنت أقرأ عدة تقارير دولية عن حالة الاقتصاد المصري وأقارنها بعدد من تصريحات النظام،والأرقام تقول:
أنه كانت هناك زيادة كبيرة في الاقتراض الخارجي فبين يونيو 2013 ومارس 2022، ارتفع الدين الخارجي للقاهرة من حوالي 43 مليار دولار أمريكي إلى أكثر من 157 مليار دولار أمريكي، أو فيما يتعلق بالناتج المحلي الإجمالي، من 15 في المائة إلى أكثر من 35 في المائة تقريبًا.
وباستثناء احتياطيات النقد الأجنبي، تضاعفت نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي أكثر من ثلاثة أضعاف. كما زادت حصتها من إجمالي الدين بشكل ملحوظ منذ ذلك الحين – من أقل بقليل من 18 في المائة في عام 2013 إلى أكثر من 40 في المائة في عام 2022.
والأرقام تقول أيضاً حسب تقارير البنك الدولي أن الدين الخارجي طويل الأجل،كان في 2010 -32.242، وبلغ في 2020 -97.471، ووصل في 2021 -106.723.
أما ألدين قصير الأجل حسب نفس المصدر الأجل، فكان في عام 2010 -3.149، وفى عام 2020 وصل ل 11.959، وفى2021 بلغ 12.842.
كما أن الأرقام تقول أيضاً حسب البنك الدولي أن نسبة الدين للتصدير تطورت بالسالب!
ففي 2010 بلغ 74 %، وفى 2020 بلغ 319%، وفى 2021 وصل إلى 242%
وبالنظر للموازنة المصرية نجد بها الكثير مثل:
-التوسع في تحصيل الضرائب.
– زيادة قيمة التمويلات بنسبة 43% عن العام الماضي لتصل إلى 1.52 تريليون جنيه (81.6 مليار دولار) من أجل سد العجز في الموازنة المالية وسداد أقساط الديون، وفقاً لوزارة المالية المصرية.
690.1مليار جنيه (37.5 مليار دولار) تكلفة خدمة الدين أي 33.3% من إجمالي المصروفات (أكبر بند في المصروفات) بزيادة قدرها 19%، أو ما يوازي نصف الإيرادات.
1.2 تريليون جنيه ما يعادل نحو 65.5 مليار دولار إيرادات ضريبية متوقعة، بزيادة نحو 19% أي 77% من إجمالي الإيرادات.
965.5 مليار جنيه (52 مليار دولار) أقساط أصل الدين.
وتلك كلها أرقام تعيسة تشي بوضع اقتصادي مأساوي وإدارة عليلة وكل ذلك ينعكس على المواطن المصري ويثقل كاهله المثقل أصلاً بكل أنواع الهموم والأعباء سياسية واقتصادية واجتماعية.
تركت التقارير والأرقام والهموم والأحزان والشجون جانباً، وتذكرت واقعة حدثت في الستينات.
“يا زكريا لو مشينا وراء نصائح البنك والصندوق الناس موش هتلاقى تأكل، ولو كنا هنمشى وراء نصايحهم كان لزمتها ايه كل المواجهات السابقة معاهم؟”. جمال عبد الناصر لزكريا محيي الدين رئيس الوزراء
في بداية سنة 1967 كانت الثورة المصرية تواصل الصعود على درجات السُلم، وإن بدا أثر الجهد على الخُطىَ. وكان هناك اختلاف اجتهادات على قمة السُلطة حول هذه النقطة بالذات: مواصلة الصعود وبأي سرعة، أو التوقف على بعض درجات السلم، أو نزول بعضها لالتقاط الأنفاس.
كانت وزارة السيد على صبري (1962 – 1965) قد أشرفت بنجاح يستحق التقدير على تنفيذ خطة التنمية الأولى، وكانت عملية التصنيع التي أدارها الدكتور “عزيز صدقي”، وبناء السد العالي الذي أدار عملية بناءه المهندس “صدقي سليمان” هما أبرز ملامح هذه الخطة، ولكن هذا الاندفاع إلى التنمية أحدث بالطبع أثاره التضخمية.
ورأى الزعيم “جمال عبد الناصر” أن هذا الاندفاع يحتاج إلى جهد في التدعيم ليسد الثغرات التي تركها وراءه، وهكذا كلف السيد “زكريا محيي الدين” (وهو يُعد الشخص الثالث في الدولة بعد عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، وكان الرجل ذوي اتجاه يميني، ويميل أكثر لاقتصاد السوق) بتشكيل وزارة جديدة في سبتمبر 1965.
وسافر بعدها عبد الناصر في زيارة رسمية ليوغسلافيا (تيتو). وقامت الحكومة بعد سفره برفع سعر كيلو الأرز، مما أحدث غضباً شعبياً عارماً.
ولحسن الحظ أن تقارير السفير الأمريكي في القاهرة “لوشيوس باتل” عن الواقعة حاضرة وموجودة. وتسجل تقارير مرفوعة من السفارة الأمريكية في القاهرة لوزارة الخارجية الأمريكية ما يلي:
“حكومة محيي الدين الجديدة قامت برفع سعر الأرز وهو الطعام المفضل لدى المصريين، والشارع غاضب، ولا يُعرف إن كان ناصر وافق على هذا الاجراء قبل سفره. ولكن المصريين البسطاء ليس لديهم آمل إلا في ناصر، وهم يراهنون على أن ناصر فور عودته سينحاز لهم ضد حكومة محيي الدين ويلغى قرار صديقه. إننى لا أعرف من أين يستمد المصريون البسطاء تلك الثقة في ناصر؟”.
ويأتي تقرير ثاني يقول:
“المصريين لا زالوا غاضبين من قيام حكومة محيي الدين برفع أسعار بعض السلع الأساسية مثل الأرز، وقد طلبت الحكومة من الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب تبرير الزيادة، وتنشيط استعمال البدائل مثل المكرونة، ولكن ذلك لم يقضى على تذمر المصريين. ولا زال المصريين يأملون في عبد الناصر!”(علامة التعجب في أصل التقرير).
ويأتي تقرير ثالث يقول:
“نشر الأهرام أن ناصر سيعود من سفره غداً، والناس بدأوا يكثفوا تذمرهم وغضبهم ورفضهم لقرارات حكومة محيي الدين في تجمعاتهم وخصوصاً في القهاوى، لأنهم يعلمون بأن ما يقولوه يصل لناصر.
لا أعلم كيف سيفعلها ناصر وينتصر للبسطاء ضد صديقه وزميلة ورئيس حكومته الذي عينه محيي الدين؟”.
ويعود عبد الناصر، ويمُر فور عودته على مكتبه ليرى إن كان هناك أي تقارير هامة تحتاج إلى توجيه، ويطلع على تقرير قياس الرأي العام، ويعرف أن الجماهير غير قابلة بقرار رفع الأسعار، ولفت نظره واقعة في تقرير وهي:
“أن الحكومة طلبت من الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب تبرير الزيادة، وتنشيط استعمال البدائل مثل المكرونة، وأن الناس في المدن السواحلية اعترضوا على ذلك الحل، لأن أغلبية أكلهم سمك، والسمك لا يُأكل مع المكرونة”.
وكان تعليق أحد المسئولين في الاتحاد الاشتراكي المقربين من الحكومة “إزاى السمك ميتكلش مع مكرونة؟ إذا كان السمك نفسه مكرونة”!
وطلب عبد الناصر عقد اجتماع عاجل لمجلس الوزراء ثاني يوم وصوله.
وظهر اختلاف الاجتهادات في الاجتماع بعد الشهر الأول من وزارة زكريا محييالدين،وكانت تلك ظاهرة صحية في معظم الأحوال.
كان هناك اجتهاد من رئيس الوزراء زكريا محيي الدين مؤداه:
” أن الظروف تقتضي بعض الانكماش، وإن تلك أيضاً نصيحة من صندوق النقد والبنك الدولي”،وأضاف محيي الدين ” بأن الفلاح المصري قبل ثورة يوليو عاش بجلباب واحد، ولكنه بعد الثورة أصبح يعيش بجلبابين وثلاثة، وليست هناك مشكلة أن يعود للجلباب الواحد مرة أخرى لسنة أو سنتين بضرورة التنمية”.
واستمع الرئيس عبد الناصر لجميع الحاضرين من الوزراء وللسيد على صبري رئيس الوزراء السابق وأمين الاتحاد الاشتراكي، وفى نهاية الاجتماع عقب عبد الناصر على الجميع قائلاً:
” إننا نأخذ بتجربة اشتراكية، وقد نواجه بعض المشاكل، ولكننا لا نستطيع إزاء هذه المشاكل أن نجئ بقمة الرأسمالية العالمية ممثلة في الصندوق والبنك الدولي ونطلُب منها المشورة في حل تجربة نمو اشتراكي”.
ثم خاطب عبد الناصر زكريا محيي الدين قائلاً:
“يا زكريا لو مشينا وراء نصائح البنك والصندوق الناس موش هتلاقى تأكل، ولو كنا هنمشى وراء نصايحهم كان لزمتها ايه كل المواجهات السابقة معاهم؟”.
وأضاف عبد الناصر:
” إنني أسلم أن الاقتصاد في الفترة السابقة كان زائد السخونة بسبب الاسراع في عمليات التنفيذ، ونحن الأن نحتاج إلى عملية تدعيم للخطوط قد تفرض علينا إعادة نظر في بعض مشروعات الخطة الجديدة،ولكن هناك اشياء لا تقبل إعادة النظر في رأيي وأهمها إصلاح واستزراع الأراضي الجديدة لكي تُستعمل مياه السد العالي، وإلا تحول هذا السد إلى هرم جديد وليس أكثر!”
ويكمل عبد الناصر:
” ثم أننا لا بد وأن نركز على الصناعات الثقيلة، وإلا زاد علينا عبء الاستيراد، فضلاً عن اهدار امكانيات وموارد يمكن استغلالها”.
ويضيف ناصر:
” أنا على استعداد لأن أقبل مضاعفة الدخل في أثني عشر سنة بدلاً من عشر سنوات. وأستطيع أيضاً أن أقبل اعطاء سنة من السُلطة المطلقة للمنفذين في كل المجالات. وأستطيع أن أقبل وجهة نظر الدكتور القيسونى عن وجود ظواهر تضخمية (بنسبة 8% سنة 1966) لا بد من امتصاصها، ولكن امتصاصها لا يمكن أن يتم كله في عام واحد لأنه سوف يجعل الحياة مستحيلة على الناس”.
ثم قال عبد الناصر موجهاً حديثه للدكتور (عبد المنعم القيسونى):
” إنني الاحظ أن الدكتور لبيب شقير (وزير التخطيط) يأخذ اتجاهاً متطرفاً في القبول بالتضخم مادام ظهوره نتيجة لأعباء التنمية والانتاج وليس نتيجة اسراف أو استهلاك، ثم أجدك بدورك تتخذ موقفاً متطرفاً على الناحية الأخرى، وأنا أخشى من المواقف المتطرفة مهماً كان اتجاهها لأنه بهذه الطريقة يمكن أن تضيع الحقيقة”.
وكان قرار عبد الناصر النهائي في موضوع الزيادات: إلغاء قرار الزيادة،وأكمل: “نقف على درجات السلم نعم، ولكن لا ننزل على السلم درجة”.
ويعاود السفير الأمريكي باتل الكتابة للخارجية الأمريكية قائلاً:
” لقد ألغى ناصر قرارات حكومة محييالدين، وربح البسطاء رهانهم، لقد أثبت ناصر أنه ملاكهم الحارس”.
قُلتُ لنفسي بعدها ما الذي تغير؟.. أين الثابت والمتغير؟
ووجدت أن الثابت الأمس واليوم أن نفس فكر السيد زكريا محيي الدين موجود، ولم يعُد فقط مقصور على وزير الاقتصاد (كالقيسونى) ولا حتى رئيس الوزراء نفسه، ولكنه امتد إلى رئاسة الجمهورية!!.
أما المُتغير: أن جمال عبد الناصر لم يعُد موجوداً،ليسمع أنين البسطاء ويشعر بمعاناتهم ويدافع عن حقوقهم حتى ولو في وجه صديقه ورئيس وزراءه زكريا محيي الدين.
وفى كل الأحوال فإن الحقائق الواضحة اليوم أمام الجميع لا تترك مجالاً للاجتهاد أو لتبرير (من سلطات رسمية أو لجان الكترونية):فهنا كأجواء مشحونة ومعبأة بأسباب تتعدد دواعيها : اجتماعية، وسياسية واقتصادية، وفكرية.
وهناك مناخ تحفزت فيه عوامل الغضب، والإحباط من واقع اقتصادي واجتماعي عليل.
وأخيراً تثور أسئلة ولا أحد يعرف الاجابة، فمثلاً:
من منا يمكن أن يعرف أين يقع الانفجار القادم؟، وما هو حساب مجيئه هل يُحسب بالساعات أم بالأيام أم بالشهور؟!
إن كل ما يمكن حسابه، من الآن إن لم يتحسن الوضع بأسرع وقت، هو أن انفجاراً سوف يقع، ولكن أين يقع؟ ومن يقوم به؟ وكيف؟ كلها مجهولات محجوبة بالكتمان وهنا القلق المستبد، والخوف من أفاق يطويها الضباب بين جنباته.
والسؤال الأهم المطروح بالأمس واليوم وفى الغد: إلى متى يمكن أن يدوم هذا كله… إلى متى؟!