ملاحظات شخصية على الأوضاع اللبنانية بقلم مجدي منصور
من متابعتي لتصريحات المسئولين والنخبة اللبنانية (سياسيين ومثقفين وإعلاميين وفنانين) على مدار اليومين الماضيين وجدت أن:
* «العصبية» هي المسيطرة في «نبرة» الكلمات والتي تضيع منها «منطقية» المعاني وذلك إنساني بسبب روع الفاجعة وهول الحادثة التي وقعت.
* والأهداف السياسية من الاتهامات المرسلة في كل اتجاه وعلى كل جانب واضحة وذلك أيضاً مفهوم بسبب التطاحن السياسي و الطائفي في ذلك البلد المتشاحن.
لكن ما أدهشني حقاً أنه رغم كل تلك الفرق السياسية والطائفية في البلد المتلوم إلا أنه لا يوجد فريق من تلك الفرق قدم «رؤية» مدروسة وعاقلة وممكنة للخروج من المأزق الذى تعيشه لبنان منذ فترة طويلة.
* فهناك قحط فكرى على مستوى الرؤى.
* وعجز عملي على مستوى السياسة.
وبين الاثنين (القحط والعجز)
* حالة «احتقان وطني» يجب أن يخشاها الجميع في ذلك الظرف الدولي المفتوح على كل الاحتمالات والسيناريوهات.
خصوصاً وأن حالة الاحتقان تلك قد تُعرض (السلم الأهلي) لذلك الوطن العزيز على الجميع لمنزلق (الحرب الأهلية) وقد جربه لبنان من قبل وعانى وقاسى منه واكتوى بناره وشاهد ويلاته.
في حين أن لبنان كان يجمع في الماضي بين فوران الفكر و قوة الفعل وحضور الإرادة.
فإنني اليوم أشعر به «مقيد» الفكر و«أسير» الفعل و«مسلوب» الإرادة.
ومع كل هذا وذاك تستجد عدد من الملحوظات:
الأولى- أن حجم النفوذ والاختراق الأجنبي لذلك البلد طاغي وغالب ، وأكثر من ذلك فإن الاعتماد على ذلك الأجنبي لم يعُد يُدارى نفسه بدواعي الكبرياء والكرامة كما كان يحدث في مراحل سابقة ، وإنما هو الأن ظاهر بالابتذال والمهانة يعلن عن نفسه مُختالاً فخوراً!(فهذا تبع الإيراني ، وذلك تابع للفرنساوى ، وذاك تابع للأمريكاني ، لدرجة حولت المشهد اللبناني لمشهد سوريالي مختلط الألوان والمعاني متشابك التفاصيل عصى على الفهم في أحيان كثيرة)!
الثانية – إن ذلك البلد لأسباب تاريخية وسياسية ودولية لم يمارس استقلاله السياسي إلا نادراً ، ولعل أكبر دليل على ذلك أن رؤساء جمهورياته لا يجلسون على كراسيهم إلا بتوافق دولي إقليمي.( ولا أريد أن أذكر أمثلة حتى لا أسيئ لأحد).
الثالثة – أن طبيعة البلد وطبيعة موقعه وطبيعة تقسيماته على المستوى الطائفي حولته أسيراً لدى أمراء الطوائف فيه ، ومن ثم نشأت طبقة (أوليجاركية) حاكمة للبلد ، وتشعب من خلالها الفساد وترعرع لدرجة محزنة مبكية لم تُدمى فقط قلوب اللبنانيون وإنما جيوبهم أيضاً ، وجاء ذلك وسط حالة اقتصادية صعبة مع جائحة صحية عالمية (كورونا) مع تراجع في خدمات أساسية (كالكهرباء) في جو شديد الحرارة مما رفع الضغط على المواطن اللبناني المسحوق أساساً بين شقى الرُحى.
الرابعة – أن من أثر الحكم الأوليجاركى أن تراجعت قيمة وفكرة (الدولة) وتقدمت معنى و قدرة (الطائفة) ، ومن ثم قل معنى الوطن في نفسية وعقلية المواطن ، لأن الولاء لم يعُد للدولة ولكن للطائفة . لأن الطائفة أصبحت هي الحامي وهى المُساعد الاجتماعي والاقتصادي وهى الموفر الخدمات وليست الدولة رغم وجود أرض مشتركة يعيش عليها الجميع ونشيد يحفظه الجميع ليردده الجميع أمام علم واحد ولا ينسى الجميع في ختام النشيد الوطني أن يهتف (عاش لبنان العظيم) ، ولكنه لبنان (الطائفة) وليس لبنان (الوطن) وهناك فرق كبير بين المعنيين.
الخامسة – ولكن في الاحتجاجات اللبنانية الأخيرة تغيرت الأمور لأن المواطن الطائفي جوهراً و مبنى و معنى سأم الجميع الطائفة والدولة ، السياسي والبيروقراطي والحزبي ، سأم حتى من نفسه و من ثم خرج بشعار فاجأ الجميع وأقلق أمراء الطوائف على ثرواتهم و امتيازاتهم والشعار كان (كُلن يعنى كُلن) بدون استثناء أو قداسة لأحد لا لعمة أو لطربوش ، لا لشيخ أو قسيس. لا لزعامة مدنية أو دينية ، والغريب أن أمراء الطوائف لم يتوحدوا في ظرف كما توحدوا يومها أمام مطالب الجماهير العريضة وذلك طبيعي لأن المصائب تجمعن المُصابينا!
السادسة – أن لبنان حدث لديه نوع من أنواع ضياع الهوية بل والهجرة منها لقطاع عريض فيها ، وكأنما هوية أي فرد أو شعب أو أمة ، أرضاً واسعة للسياحة يمكن استعارتها وتبديلها بين ليلة وضحاها ، وكأن الجذور الثقافية والحضارية للمجتمعات حزمة نباتات زينة يُعاد وضعها وترتيبها في أي مكان يناسبها حجماً ونوعاً ولوناً!
السابعة – والأسوأ أن البعض في لبنان لا ينزع الهوية العربية عن حاضره ومستقبله فحسب ، وإنما يعود بأثر رجعى إلى خلع هويته عن ماضيه وكأن التاريخ يمكن تبديله وتعديله باللعب فيه عن طريق برامج الفوتوشوب!
الثامنة – (وتلك الملاحظة تنطبق على العالم العربي كله وليس لبنان فحسب) أن هناك فراغ في المؤسسات التي تقوم بدور الحافظ والموجه والمحرك للوعى العام والمسئولية العامة والدور الاجتماعي للشعوب ، وبالتالي فإن الإرادة الجماعية للشعب اللبناني لا تجد ما يستوعب تدفقها ، ومن ثم تتحرك تياراتها الجارية إلى مستنقعات راكدة عفنة عطنه ، ويتسرب كثير من طاقتها بالبخر أو بالتسرب.
ولعل لبنان هو انعكاس للحالة العربية الراهنة.
فالعالم العربي اليوم على المستوى الداخلي يعيش على القهر ويحيا في الفقر وينام على التشاؤم ليصحوا على إحباط جديد في صبيحة كل يوم وفجيعة مريعة مع كل فجر جديد (كتلك التي حدثت في مرفأ بيروت).
وكذا فالعالم العربي يعيش حالة استباحة كاملة لمصائره، فبعد فترة من الكبرياء لحقت بإتمام مرحلة الاستقلال الوطني (من الخمسينات حتى منتصف السبعينات) تغيرت الأحوال وأصبحت الأمة شعوباً وأفراداً وحتى قيادات فريسة مكشوفة للإهانة والعدوان والأمثلة اليوم والأمس كثيرة وإن كان عدها مؤلماً جارحاً.
ولا زالت الأسئلة تطرح نفسها:
ما الذى جرى لبيروت؟ وما الذى جرى للقاهرة؟ وما الذى جرى لدمشق؟ وما الذى جرى لبغداد؟
ما الذى فعلناه بأمتنا وبأنفسنا لدرجة أننا بتنا نعيش واقع صعب مؤلم حزين يُشبه تلك المآسي الإغريقية التي تبدأ و تنتهى دائماً بمنظر الدماء البشعة مع الصرخات المتحشرجة المنطلقة من الصدور لحظة أنين وعويل؟
أين ذهبت قدرة الفكر ومقدرة الفعل لتلك الأمة التي كان يقال عنها في الماضي أنها حاضرة وحية ونابضة من الخليج الثائر حتى المحيط الهادر؟!
ولعل لبنان يصدق عليه بيت الشعر لأمير الشعراء أحمد شوقي عندما قال:
«إن الذين آست جراحك حربهم قتلك سلمهم بغير جراح».