الصورة الكبيرةدولي

كيف فكر الإسرائيليين وكيف انتهى العرب؟(2) كتب مجدي منصور

لعل النظر على الأحوال العربية اليوم أصبح أمرًا مرهقًا للقلب قبل العقل ، فعرب اليوم أحوالهم تُبكى ولا تُفرح ، وتسوء ولا تتحسن ، و تتراجع ولا تتقدم.

ولقد عرضت في الجزء الأول من الموضوع عدة مشاهد من قصة الصراع العربي الإسرائيلي ، والذى نزل بعد معاهدة كامب ديفيد ليصبح صراعًا سوريًا فلسطينيًا إسرائيليًا ، وظل الصراع يتنازل «بجلاله» خطوة بعد خطوة ويتواضع «بخطورته» عامًا بعد عام بعد معاهدة أوسلو ووادي عربة ودائرة التنسيق الأمني التي لا تتوقف بين العرب وإسرائيل!

ولعل كثيرون تعجبوا من ظهور العلاقات الخليجية الإسرائيلية من السر للعلن ، بل إن البعض ظهر وكأنه فوجئ بالأمر ، وذلك نوعًا من البرأة غير المُتسقة مع السياق ، لأن العلاقات الخليجية الإسرائيلية قديمة منذ أن استعانت المملكة العربية السعودية بكل من استطاعت يدها أن تصل إليه للوقوف ضد مصر الناصرية وبالتحديد وقت حرب اليمن 1962 حتى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر عام 1970 ، وتواصل التعاون تارة ضد الخميني الشيعي في إيران ، وتارة ضد صدام حسين القومي في العراق.

(1) بندر وسيجمان والكل صحبة في واشنطن!
لكن العلاقة تطورت ونمت أكثر وبدأت تطفو على السطح بعد حرب الخليج الثانية (غزو الكويت وتدمير العراق بعدها) . ففي أثناء الاعداد لحرب (عاصفة الصحراء) قام الأمير بندر بن سلطان (سفير السعودية الأشهر في الولايات المتحدة ورئيس المخابرات السعودية بعدها) باتصال مباشر مع أصدقاء الإسرائيليين في واشنطن ، و دعا عدد من قيادات المؤتمر اليهودي الأمريكي ، وعلى رأسهم هنري سيجمان لمقابلته وتم اللقاء الذى حضره أحد المقربين من رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحاق شامير وهو آفى بارنز.

وقد روى سيجمان تفاصيل اللقاء قائلًا:
أنه سأل بندر قائلًا له: إنني أريد أن أسألك يا سيادة السفير – هل إن بلادك بعد أن تنتهي هذه الأزمة سوف تعلن بلا قيد أو شرط اعترافها بحق إسرائيل في الوجود؟ وهل أنت مستعد لأن تؤكد لنا أن بلادك سوف تقوم بتطبيع علاقاتها بالكامل مع إسرائيل بعد التوصل إلى حل سلمی ؟

ورد و بندر – طبقا لرواية سيجمان ، قائلا: «نعم هذا هو بالضبط ما أقوله ، وأضيف عليه أن سوريا أيضا سوف تكون على استعداد لاتخاذ نفس الموقف».

وروی سیجمان ، أيضا تفاصيل أخرى مما سمعه وفد المؤتمر اليهودي الأمريكي من الأمير بندر منه:
وإن بندر، قال لهم «إن منظمة التحرير الفلسطينية فقدت مصداقيتها بتأييدها لصدام حسين ، وأنه بعد الحرب : إما أن تظهر منظمة تحرير فلسطينية جديدة – وإما أن تظهر قيادات فلسطينية أخرى من داخل الأرض المحتلة تستطيع أن تتعامل بطريقة أفضل مع إسرائيل».

تعليق:
يُلاحظ أن فكرة تغيير القيادات الفلسطينية واستبدالها بأخرى ما دامت لا تُساير السياسات والأهواء الأمريكية أو الاسرائيلية أو الخليجية هي فكرة قديمة من محمود عباس أبو مازن في الماضي لمحمد لدحلان اليوم!
انتهى التعليق وعودة للسياق من جديد.

وكانت تلك عينة من العلاقات المنشورة والمعروفة بين وكيل الخليج المعتمد وقتها السعودية وبين الإسرائيليين.

(2) «استفيدوا من طيبة قلوبنا التي تصل لحد السذاجة»! يوسي ساريد

كان التسويق للعلاقات العربية الإسرائيلية كصناعة بيع الوهم التي لم تكتفى بسحابات الأحلام الغامضة والمبهمة (كتلك التي أعطاها الرئيس المصري أنور السادات للمصريين عندما حدثهم ووعدهم بأنهار السمن والعسل التي ستأتي لهم وستنعكس على حياتهم عقب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل!) ، بل حاولت أن تنزل حتى «بالوهم» لتحوله إلى جرعات «تخدير» يذهب «بالوعى» و«بالعقل».

ولعل ذكر مشهد في هذا السياق يكون كاشف عن الوهم والتخدير الذى مورس على العرب في آنٍ واحد.

فقد روى وزير الخارجية المصري وقتها عمرو موسى أن وزيرًا إسرائيليًا هو یوسی سارید (وزير البيئة وقتها) قال له بالنص:

«نحنُ الإسرائيليون أُناس طيبو القلب نعطي كل شيء ولا نطلب شيئًا

زارنا السادات في القدس فأعطيناه سيناء هدية.

وحيانا الملك حسين فحققنا له قبولا دوليًا غفر له موقفه في حرب الخليج، وخرج بفوائد لم يكن ينتظرها.

والتقى بنا عرفات في أوسلو فأعطيناه غزة وسبع مدن في الضفة.

ونحن لا نعرف لماذا يتردد الرئيس حافظ الأسد؟ لماذا لا يجيء إلينا في القدس ويستفيد من طيبة قلبنا وهي تصل أحيانًا إلى حد السذاجة! ، دعوه یجیء وسوف يرى ما سوف نعطيه له؟!».

(3) « إن اللاءات الثلاثة الشهيرة في مؤتمر الخرطوم سنة 1967 تحولت في جنيف مع عرفات لتصبح (نعم) ثلاث مرات أيضًا» وزير الخارجية الأمريكي جورج شولتز.

إن إثارة الأحلام الغامضة تحول بالإلحاح على ذكرها إلي وهم يسرى كالمخدر في دماء الضحية. وعندما أيقن الجلاب أن ضحيته أدمنت المخدر الذى أعطاه وسوقه لها في غلاف السلام! تحول «الجلاب» إلى «جلاد» وانتقل من دور تشجيع الضحية على تناول المخدر لدور تعذيب الضحية بتناول المخدر!

وكمثال على ذلك – فإن ياسر عرفات في محاولاته للحصول على الرضاء الأمريكي بأي شكل ، وبأية تنازلات ، فإنه وافق على شروط وزير الخارجية الأمريكية الأسبق (جورج شولتز) في عهد الرئيس (رونالد ريجان) والتي وضعها بنفسه وكانت أهم ما فيها:

«الموافقة على التفاوض مع إسرائيل ، وأن المنظمة تتعهد أن تعيش في سلام مع إسرائيل وأن تحترم حقها في العيش بسلام ، وأن المنظمة تُدين جميع أعمال العنف الفردي والجماعي ضد إسرائيل».

وفى جنيف يوم 13 ديسمبر 1988 القى عرفات خطابًا ضمنه الشروط الأمريكية الإسرائيلية ، ولكن «الجلاد» شولتز أراد أن «يذل» الضحية عرفات فاعتبر أن الصيغة طارت بعض حروفها وقال للرئيس ريجان على الهاتف:

«أن عرفات في ندائه للولايات المتحدة الأمريكية لم يقُل (أنكل uncle) كاملة ، وإنما قال الحروف الأولى منها ، وعليه أن يكمل بقية الحروف ويذكر النداء إلى العم الأمريكي كاملًا» (توبةً وتضرعًا).

وقد كان ، فقد عقد عرفات مؤتمرًا صحفيًا في اليوم التالي أكمل فيه ما اعتبره شولتز ناقصًا من كلمته بالأمس.

واعتبر شولتز أنه حصل على انتصار باهر ونقل في مذكراته تعليقًا لجريدة النيويورك تايمز قالت فيه: « إن اللاءات الثلاثة الشهيرة في مؤتمر الخرطوم سنة 1967 تحولت في جنيف مع عرفات لتصبح (نعم) ثلاث مرات أيضًا».

(4) «لقد فعلنا في مصر الكثير والكثير ، لدرجة أنهم لو أرادوا اصلاحه لعجزوا». الجنرال عاموس يدلن

واليوم يتهافت الجميع على اقامة علاقات علنية مع إسرائيل من الخليج حتى السودان التي تبرر ذلك « بأنها بحاجة لتلك العلاقات كي تخرجها من الأزمات مع الولايات المتحدة »! ، وهى بالطبع تُريد من تلك العلاقات ناتجًا لا يقل عما حصلت عليه مصر! ، ولعل الأشقاء في السودان ينظرون الى مشهدين يُلخصان مضمون العلاقة المصرية الإسرائيلية من جانب إسرائيل.

المشهد الأول:
وفى أحد اللقاءات الجانبية في المؤتمر الاقتصادي المنعقد في المغرب عام 1994 وقف شيمون بيريز (وزير الخارجية وقتها في حكومة رابين) يقنع بعض رجال الأعمال بأن هناك رياحًا جديدة تهب على الشرق الأوسط ، وعليهم أن يلائموا أشرعتهم مع هذه الرياح الجديدة.

وكان بين ما قاله: « إن مصر كانت تقود الشرق الأوسط في الأربعين سنة الماضية ، وأنتم ترون الآن ما انتهت إليه الأحوال في هذه المنطقة. وإذا أخذت إسرائيل الفرصة – ولو العشر سنوات فقط – فسوف تلمسون بأنفسكم وفي حياتكم مدى الفارق بين الإدارة المصرية والإدارة الإسرائيلية للمنطقة» .

تعليق:
يستحق الايضاح هنا – وتلك نقطة مهمة ولعلها تفسر ما نراه اليوم من السياسات الإسرائيلية.

أن الإسرائيليين (جنرالات وحاخامات – سياسيين وعسكريين – حمائم وصقور) متفقين على أن «السلام» يجب توسيع معناه في ظل حالة الانهيار العربي ليصبح «وسيلة» لتحقيق هدف أسمى وأكبر وهو «النصر النهائي» لللدولة العبرية على كافة أعدائها في الاقليم الواسع الممتد حتى بعد حدود إيران وصولًا للهند وباكستان.

ومنذ منتصف التسعينات و هناك مدرستين في إسرائيل لرؤية «السلام» بمعنى «تثبيت و ترسيخ الانتصار النهائي لإسرائيل».

مدرسة حزب العمل وعلى رأسها تلميذ (بن جوريون) النجيب شيمون بيريز وهى تستند على تثبيت وترسيخ النصر الإسرائيلي ، من خلال (حلم) «شرق أوسطي» تديره و توجهه و تتحكم فيه الدولة العبرية ويكون مركزه وبؤرته تل أبيب.

ومدرسة حزب الليكود وعلى رأسها تلميذ الصقور الوفي (من بيجن لشامير وبينهم شارون) بنيامين نتنياهو ياهو – الذى يعتمد مفهومه في تثبيت وترسيخ النصر الإسرائيلي من خلال استخدام مصطلح (السلام) على «كامل أرض إسرائيل» وهي القاعدة التي يتحلق حولها الشرق الأوسط بحقائق القوة الموجودة الأن على أرض الواقع ، وهذا هو اطار الحلم الشرق أوسطى بالنسبة له.

أي أن كلا الرجلين (بيريز ونتنياهو) لم يكن يتحدث عن السلام بالمعنى الذى يتصوره العرب (ملوك أو رؤساء أو أمراء أو جنرالات في ممالك وجمهوريات الموز العربية) ، وإنما يتحدث عن « نصر» جاء وقته ، وتسمح الموازيين الاقليمية والدولية الأن بتثبيته وترسيخه .

فبيريز المخادع كان يحلُم « بشرق أوسط جديد يفتخ الأفق الواسع أمام إسرائيل».

أما نتنياهو الواضح فمشروعه الذى عمل عليه حتى حققه اليوم هو « كامل أرض إسرائيل يصنع المركز القاعدة من خلاله ليلتف حوله الاقليم بأسره».

وهو ما نراه يتحقق اليوم حسب حلم ومشروع نابليون إسرائيل الجديد بنيامين نتنياهو.
وكلا الرؤيتين في مفهوم السلام للإسرائيليين لم يكُن ليُكتب لهُما النجاح إلا بعد وراثة الدور المصري في المنطقة بعد اضعافه و تقزيمه و إنهائه بتصفيته تمامًا كما هو حادث اليوم.
انتهي التعليق وعودة للسياق من جديد.

أما المشهد الثاني
فقد جاء جليًا وفصيحًا وواضحًا ومباشرًا على لسان مدير الموساد الأسبق الجنرال عاموس يدلن حينما قال:

«لقد فعلنا في مصر الكثير والكثير ، لدرجة أنهم لو أرادوا اصلاحه لعجزوا».

تعليق:
أي أن «استراتيجية» إسرائيل للتعامُل مع مصر في عهود السلام (السادات – مبارك – مرسى – السيسي) ظلت كما هي لم تتغير في عهد الحرب (جمال عبد الناصر) لم يتغير شيئًا ، أي أن التغيير لم يكن في «المضمون» ولكن في «الاسلوب» ، وذلك هو «منطق الصراع» ، وليس كما يظُن بعض الحالمين أو الواهمين أو المغيبين من العرب اليوم أن ما يسمونه «سلام» قد أنهى حقبة «الصراع» ، و أنه نقل جلاد وسفاح أول الأمس من خانة العدو الأبدي لمربع الصديق المؤتمن بالأمس والحليف والخِل الوفي اليوم!

تركت قلمي وسرحت ببصرى وتذكرت بنصف ابتسامة تجمع ما بين الحزن و الآسي ، أنه في يوم من منتصف الستينات من القرن الماضي (وقت أن كان للعرب كلمة وموقف في الصراع) ذهب رئيس الموساد الإسرائيلي وقتها مائير أميت يطلب من (شاه) إيران الاعلان عن العلاقات السرية بينهم وقتها وأن يقوم الطرفين بإظهارها إلى النور بدلًا من بقائها في وحشة الظلام.

و جاءه الرد من الشاه شخصيًا : « وما الذى يضايقكم في هذا يا سيدى الجنرال؟ ، أليس صحيحًا أن العشق ألذ من الزواج؟!».

وقلتُ لنفسي إن عرب الخليج اليوم أتقياء أنقياء أطهار أكثر شاه إيران بالأمس القريب ، وهم لا يريدون الاستمتاع بممارسة العشق و ارتكاب الفاحشة مع الإسرائيلي في الظلام! ، بل يريدون إضفاء الشكل الشرعي على عملية «الاغتصاب» لهم من الجانب الإسرائيلي ، وبشرط أن يشهد على عقد الزواج أو بالأصح على عملية الاغتصاب شاهدين عدول أولهما – دونالد ترامب و ثانيهما – صهره جاريد كوشنر ، والكل صحبة على سرير المتعة في البيت الأبيض!

المراجع:
المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (3) – محمد حسنين هيكل.
الانفجار 67 – محمد حسنين هيكل.

مجدي منصور, محامي مصري وكاتب سياسي

مجدي منصور كاتب سياسي مصري له العديد من المقالات والدراسات المنشورة بكبرى المواقع ك (ساسة بوست - نون بوست - هاف بوست- عربي بوست - روافد بوست).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى