أمنالصورة الكبيرة

نظرة جديدة على الوثائق الإسرائيلية (5) كتب مجدي منصور

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

رأينا في الأجزاء السابقة أن إسرائيل كانت لديها كافة المعلومات والتحذيرات عن الاستعدادات التي تقوم بها الجيوش العربية (مصر وسوريا) لتحرير الأراضي العربية المغتصبة في 5 يونيو 1967 – و لعل السؤال المنطقي الذي يجب أن يُطرح – هو:
كيف فوجئت إسرائيل بالحرب رغم كل المعلومات والتحذيرات التي جاءتها من قبل عملائها على الأرض (في كُلاً من مصر وسوريا) ومن خلال التسمع اللاسلكي؟.
ومن خلال استقراء تحقيقات لجنة أجرانات نجد أن هناك أسباباً بارزة لذلك

(1) إن إسرائيل سلمت نفسها لمفهوم ورؤية المخابرات العسكرية (أمان) بقيادة إيلي زاعيرا – تلك الرؤية ترسخت لديها منذ عام 1971 واعتمدتها لفهم وتفسير تحركات المصريين والسوريين على أساسه ، بل ونقل الثقة في هذا المفهوم إلى قيادات الدولة العسكرية والسياسية – فما هو هذا المفهوم؟

إنه يتكون من عنصرين :
الأول يقول – إن مصر لن تشن هجوما ضد إسرائيل إلا إذا ضمنت لنفسها القدرات العسكرية الجوية التي تمكنها من الهجوم على عمق إسرائيل وتدمير قوة السلاح الجو الإسرائيلي وشل قدرته على التدخل في المعركة.

أما العنصر الثاني فيقول – إن سوريا لن تُقدِم على شن هجوم شامل على إسرائيل إلا في وقت واحد مع مصر.
و لقد تبين للجنة من التحقيقات مع زعيرا أنه احتضن هذا المفهوم طوال الوقت ، دون أن يُعطي نفسه والآخرين الفرصة لمراجعته مع الظروف المتغيرة في معلومات من أجهزة جمع المعلومات الإسرائيلية.
كذلك فإن اللجنة رأت أن زاعيرا وجهازه للبحوث والتقديرات لم يختبرا صحة ذلك المفهوم في ضوء المتغيرات السياسية والضغوط الشعبية في كل من مصر وسوريا.
وذلك يظهر في أقوال وزير الدفاع موشيه ديان أمام اللجنة بتاريخ 4 فبراير 1974 بقوله:
« إنه ساد في شعبة الاستخبارات العسكرية مفهومين الأول – بأن السوريين لن يذهبوا إلى الحرب بدون المصريين. والثاني – أنه مادام المصريين ليس لديهم طائرات قتالية قاذفة مثل الفانتوم التي نمتلكها أو ما يماثلها ، فليس لديهم خيار للمهاجمة ، كما أن صواريخ سكود التي يمتلكونها ليست بديلاً في هذا الصدد. ونظراً لأنهم ليس لديهم خياراً ، فإن مصر لن تهاجم إذاً وبما أن مصر لن تهاجم فإن السوريين لن يدخلوا حرباً بمفردهم ».

وهو نفسه ما أكدته كافة شهادات القيادات السياسية والعسكرية أمام اللجنة.
إن الاعتماد على مفهوم ورؤية المخابرات العسكرية (أمان) جعل القيادات العسكرية تهمل عدد من التحذيرات التي جاءتها من عدد من المصادر المهمة من ضمنها الملك حسين الذي حذر رئيسة الوزراء مائير.
لدرجة أن عضو لجنة التحقيق الجنرال السابق حاييم لاسكوف يُبدى أثناء استجوابه لرئيس الأركان دافيد اليعازار علامات التعجب والاندهاش عندما يقول له

« أحاول أن أفهم طيلة الوقت ، ما هو نوع التحذير من المفاجأة الذى يمكن أن يصدر ويجعلكم (تنتبهون) ، لقد رأيتم التطورات تحدث أمام أعينكم ، ولم تفعلوا شيئاً لمجرد أنكم ارتكنتم على وضعية ثبُت فيما بعد بأنها خاطئة »!

تعليق:
في هذا الشأن يوجد أمران.

الأول – فيما بعد صدور النتيجة النهائية للجنة كشف زاعيرا بعد ذلك عما اعتبره خطأً رئيسياً من جانب رئيس الموساد تسفي زامير باعتباره رئيس (جلب) المعلومات من الخارج والذى يتبع مباشرةً رئيسة الوزراء مائير ويقدم لها المعلومات ذات الأهمية بطريق مباشر ويرسل نسخة منها للمخابرات الحربية.
ويضيف زاعيرا أن المعلومات التي تأسس عليها ذلك المفهوم (عدم دخول مصر لمواجهة بدون قاذفة ثقيلة تستطيع أن تصل للعمق الاسرائيلي ، وتأسيساً على عدم دخول مصر للحرب ، فإن سوريا لن تدخل لحرب بدون مصر) منذ ما قبل توليه منصبه جاءت من رئيس الموساد الذى حصل عليها من أشرف مروان.
ويُضيف زاعيرا (وتلك نقطة للحق تحسب لأشرف مروان) أن مروان قد استطاع السيطرة على عقل رئيس الموساد وإقناعه بما تمليه عليه أجهزة المخابرات المصرية لتضليل إسرائيل.


ومن هنا يرى زاعيرا أن المسئولية يجب أن تقع على رئيس الموساد الذي سقط في فخ الخداع المصري و صدق كل المعلومات التي كان يقدمها له أشرف مروان وأقنع بها كل القادة السياسيين والعسكريين.

ثانياً- يمكن القول أن تقدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية فيما يتعلق (بعدم دخول مصر للحرب دون وجود قاذفة ثقيلة تستطيع أن تصل للعمق الإسرائيلي) كان تقديراً صحيحاً حتى أواخر عام 1971 ، ولكن هذا التوجه فيما يدُل عليه سير الوقائع (تغير) بعد تخلُص الرئيس السادات ممن عرفوا بمراكز القوى.
ولا يوجد في كل ما اطلعت عليه من المصادر العربية والأجنبية سبب مقنع لذلك التغيُر لدى كل من القيادة السياسية والعسكرية المصرية.
وإن أردت أن أجتهد فاعتقادي أن كل من القيادة السياسية والعسكرية أدركوا أن الحصول على طائرة مثل الفانتوم أمر بعيد المنال في ذلك الوقت ، كما أن الرئيس السادات قد يئس في ذلك الوقت من أن يجد حل سلمى على يد الأمريكان ووجد الرجل أن أي تسويف في دخول المعركة ستكون عواقبه وخيمة على الجبهة الداخلية لأن حالة الغضب و التململ الشعبي في الداخل وكذا ضيق قطاع عريض من العسكريين بذلك الوضع ، وفى اعتقادي أن كل تلك العوامل هي السبب في تغير الرؤية المصرية لدخول الحرب بدون التفوق في سلاح الطيران.
انتهى التعليق وعودة للسياق من جديد

(2) اعتماد القادة السياسيين والعسكريين على (وعد) زعيرا بالتحذير المبكر بالحرب.
في استنتاجات لجنة أجرنات عن أسباب الفشل في تقدير نوايا المصريين والسوريين ، والتي نُشرت في التقرير الأول للجنة في 1/4/1974 جاء فيه أن الجنرال إلياهو زاعيرا رئيس المخابرات العسكرية (أمان) قد أصدر وعداً بإعطاء تحذير مبكر للقيادة في حالة توفر وانعقاد نية العدو المصري على شن حرب شاملة ، مؤكداً أن تحذيره سيأتي قبل الموعد المحدد لهجوم العدو بفترة زمنية كافية للاستعداد وتعبئة القوات الاحتياطية على نحو منظم لا عجلة فيه.
ويُضيف تقرير اللجنة أن وعد زاعيرا اكتسب مصداقية لدى قيادات الجيش وكان له اعتبار كبير عندها لدرجة أنها اتخذت منه قاعدة تبنى عليها خططها الدفاعية.
وتعقب اللجنة قائلة أنها لم تجد فيما عُرض عليها من وثائق وأقوال أساساً صالحاً لإصدار هذا الوعد الاستراتيجي الذى عول عليه الجيش.

وعد زاعيرا .. «سنعرف قبل أن يبدأون الحرب ضدنا »!


إن زعيرا في جلسة للمجلس الأمني المصغر بتاريخ 18 إبريل 1972 والمكون من رئيسة الوزراء مائير ووزير الدفاع ديان ورئيس الأركان العازار ومدير المخابرات العسكرية زاعيرا . وفى تلك الجلسة قال زاعيرا:
« على أي حال إذا وصلت الأمور للاحتمالية الثالثة وهى عبور القناة فنحنُ سنعرف بذلك مُسبقاً ».
فسألته رئيسة الوزراء مائير: «كيف سنعرف؟ هل من خلال شكل استعداداتهم؟ »
ورد زاعيرا: « سنعرف من الاستعدادات .. سنعرف من ظهور القادة في جولات ميدانية .. وعند تحريك القوات للأمام .. وعند تدعيم تشكيلات الدفاع الجوي .. وعند إضافة بطاريات الصواريخ .. وسنراهم ينظفون الدُشم المهجورة على طول القناة. وعموماً عندما يدخل الجيش المصري كله في حالة استنفار ، فنحن سنعرف ذلك » .
« وفى مقابل هذا عندما لا يتبقى سوى أن يرفع السادات سماعة التليفون ويقول لقائد الجيش : (افتح النار) ».
وهنا يعلق ديان على كلام زاعيرا (بغرور و سخرية واستخفاف) قائلاً : « حتى ذلك سنعرفه بعدها وإذا لم يكن قبل (المكالمة) ، فسنعرفه (بعدها) مباشرةً ».
ولم تفهم رئيسة الوزراء مائير مغزى سخرية ديان فتساءلت : «سنعرف في الوقت نفسه؟».
فأجاب ديان (بمنتهى الثقة الواصلة لحد الغرور): « في الوقت نفسه وأكثر». (كان واضحاً أن ديان هنا يعتمد على محطة التنصت الكبيرة التي أقامتها إسرائيل في أم خشيب للتجسس على اتصالات مصر).
وعُدَ ذلك الوعد من زاعيرا بمثابة سياسة بنى الجميع عليها تقديراته

(3) إسرائيل وقعت بالكامل في خطة الخداع الاستراتيجي المصرية!


وذلك ظاهر في شهادة رئيس الأركان اليعازار بسرده لمحضر اجتماع لهيئة الأركان الإسرائيلية يوم (1 أكتوبر) لبحث التداعيات الأخيرة على الجبهات (المصرية والسورية). يقول اليعازار: إن رئيس الاستخبارات العسكرية الجنرال زاعيرا قيم ما يحدث بقوله:

«إن الاستعدادات المصرية سببها المناورة التي يقومون بها ونحن على علم بكل ما يجرى فيها ، أما الوضع على الجبهة السورية فذلك لخوف السوريين من قيامنا بتوجيه ضربة لهم ، فهم يخافون من أننا قد ندخل قواتنا تحت جناح الظلام لمهاجمة مواقعهم».
ويضيف رئيس الأركان وهو يقتبس من محضر الاجتماع أمامه : أن رئيس الاستخبارات العسكرية في نهاية حديثه أمام هيئة الأركان قال :
« كل الأمور التي سردتها لا تغير من تقدير الموقف الأساسي الذى أصدرته الاستخبارات الحربية ، وفيه أن معقولية مبادرة مصر وسوريا بشن الحرب مازالت ضعيفة (جداً) ، والمنطقي ان كل ما يجري اليوم باستثناء المسألة الروسية (إجلاء العائلات السوفيتية من مصر) التي ليس لدينا تفسير واضح لها حتى الأن ، ينبع من مخاوف سورية ومخاوف مصرية من هجوم نشنه عليهم » .
« وهناك احتمال ضعيف ، بل أضعف من الضعيف ، بل أشد ضُعفاً من ذلك »! (علامة التعجب من عندي)
وعندئذ لخص زاعيرا حديثه قائلاً في النهاية أود أن أقول:
« إن الوضع يتسم بالعصبية عند المصريين والسوريين وهم منهمكون في مناقشة السؤال: هل يعتزم الإسرائيليون الهجوم؟ وفي نهاية المطاف لا أعتقد أننا مقبلون على حرب لكن الوضع اليوم يرسم علامات استفهام أكثر من الساعات الأربع والعشرين الماضية ».

(4) إن إسرائيل رغم معرفتها بالفرق الفني بين الوضع في حرب يونيو 67 وبين حرب أكتوبر 1973 إلا أنها فشلت في التوقع والمواجهة بعد ذلك.

وذلك يظهر في شهادة دافيد اليعازار أمام اللجنة بقوله:


إننا نعيش هذا الوضع نظرياً ، منذ حرب 1967 ، لكن عملياً اعتباراً من 1971 وفى أعقاب وقف إطلاق النار بعد حرب الاستنزاف وصلنا إلى وضع لم نعرف مثله قبل 1967 ، كان الجيش المصري قبل 1967 يتمركز في سيناء ونحن نتمركز عند الخط الأخضر ، وكانت سيناء محمية بقوات مصرية قليلة للغاية وكان لدينا مؤشر سهل جداً:
« دخول الجيش المصري إلى سيناء يعنى وجود نوايا هجومية ، وبالفعل ما زلت أتذكر حالات حدث فيها تعبئة الاحتياط في إسرائيل نظراً لأن الجيش المصري دخل سيناء ».
وذلك لأنه لم يكن لديهم إمكانيات فنية تسمح بالهجوم علينا دون أن يدخلوا جيشهم إلى سيناء.
واعتباراً من 1967 وبعد حرب الاستنزاف دخلنا مرحلة أصبح الهجوم المباغت احتمالاً قائماً ، وفى تلك الأيام التي كان الجيش السوري يدخل ويرفع أحياناً حالة الطوارئ لمدد تصل إلى ثلاثة و أربعة أشهر متتالية وأدركنا أن هذه حالات طوارئ فنياً ، يمكن الانتقال منها إلى حالة الهجوم لكن تقديرنا للموقف كان دائماً.

تعليق:
ما يتحدث عنه اليعازار عن دخول الجيش المصري إلى سيناء قبل حرب يونيو 1967 – هو إشارة إلى دخول سابق لقوات كثيفة من الجيش المصري إلى سيناء سراً سنة 1960 ، وكان دخولها في ظروف غارة إسرائيلية على منطقة (التوافيق) في سوريا ، وقد بلغ حجم القوات المصرية التي دخلت سيناء سراً قرابة فرقتين (أكثر من أربعين ألف مقاتل).
ولم تشعر إسرائيل بدخولهما إلا عندما قامت الولايات المتحدة إخطارها بناء على معلومات لديها بأنها (نائمة في العسل)! لا تعرف ما يجري على حدودها.
لقد انتهت الصفحات المخصصة لذلك الجزء من المقال ، ولم تنتهِا بعد الحقائق التي في تقرير أجرانات ، وما زالت الوثائق تكشف المسكوت عنه وتفضح المخفي منه.

مجدي منصور, محامي مصري وكاتب سياسي

مجدي منصور كاتب سياسي مصري له العديد من المقالات والدراسات المنشورة بكبرى المواقع ك (ساسة بوست - نون بوست - هاف بوست- عربي بوست - روافد بوست).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى