أمندولي

الردع النووي الإسرائيلي.. خفايا التغيرات الاستراتيجية التي تجرى في إسرائيل اليوم؟ ج(1) بقلم مجدي منصور

ظني أن التفاعلات والتغيرات الاستراتيجية التي تجرى في إسرائيل اليوم، تحتاج منا إلى نظرة فاحصة ووقفة تأمل للمشهد داخل ذلك الكيان، الذي استطاع أن يخلق من الأسطورة البعيدة حقيقة فريدة نلمسها ونشهدها كل يوم، فذلك الكيان استطاع أن يكون مضرب الأمثال في القدرة على الانتشار، وتحقيق الأحلام بقدرة الأفعال، ووضع الجسارة في خدمة الإرادة وذلك يتجلى على الأرض في الشرق الأوسط بأسره.

ولعل الفرق بين العرب والإسرائيليين،أن الإسرائيلي المغتصِب كان أوعى من العربي صاحب الحق المضطرب «في فكره وفعله»، وكان الإسرائيلي أكثر تمسكًا بحلمه أو «أسطورته». وفي حين أن العربي تنازل فإن الإسرائيلي تمسك، وفي حين أن الإسرائيلي صمم فإن العربي تخاذل. ولا زال مسلسل التنازلات والتخاذلات مستمرًا، ولا أحد يعلم متى سيتوقف أو متى ينتهي؟

ولعل أهم ما يدور داخل أوساط صناعة القرار في إسرائيل من مؤسسات رسمية «مجلس الوزراء المصغر (الكابينيت)،لجنة الأمن والدفاع بالكنيست الإسرائيلي» والمؤسسات البحثية المتنفذة، مثل مركز أبحاث الأمن القومي بتل أبيب، ومركز بيجن السادات، ومؤتمر هرتزيليا هو: تغيير العقيدة النووية الإسرائيلية من استراتيجية الغموض النووي والتحول إلى استراتيجية الردع النووي العلني المقرون بالخطوط الحمراء.

وقبل أن أدخل إلى عمق الموضوع لي ملاحظتان:

أني قررت أن أقسم الموضوع إلى جزئين، الأول يتناول تفاصيل الاستراتيجية النووية التي وضعها الآباء المؤسسون للدولة، والثاني طرح التفاصيل الخاصة التي تجرى داخل مؤسسة صناعة القرار في إسرائيل اليوم وشرحها.
إن المراجع ومصادر المعلومات في المقال سترد في نهايته كما أفعل دائمًا.

1- كيف بدأ المشروع النووي الإسرائيلي؟

بعد اقتراب جمال عبد الناصر من قمة السلطة في مصر عام 1954 راح بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل يتحدث بصراحة عن القنبلة. وفي اجتماع للجنة السياسة الخارجية للحزب الذي كان يرأسه وهو حزب «المابام»، وبتاريخ مايو (أيار) عام 1954، فتح بن جوريون عقله وقلبه لأعضاء اللجنة، وقال «المُعلم» كما كان يطلقون على بن جوريون طبق وقائع المحضر:

«إن العرب كما نرى من حولنا يظنون أنهم وجدوا زعيمًا يوحد شملهم ويقود صفوفهم إلى حرب إبادة ضد إسرائيل. إن العرب لم ينسوا قط هزيمة جيوشهم بواسطة جيشنا وهم الأكبر منا عددًا في السكان، وفي مساحة الأرض وفي حجم الموارد، وهم سوف يعودون مرة أخرى ومرات لقتالنا، وهم قادرون على تحمل هزائم يستوعبونها بحجم السكان والأرض والموارد، وأما إسرائيل فإنها لا تستطيع، بمعنى أن إسرائيل إذا خسرت الحرب مرة، خسرت الحياة إلى الأبد!

إن ذلك ما يجب أن تعرفوه جيدًا، وأصارحكم أن الأرق يتملكني كل يوم ويحرمني من النوم كل ليلة عندما أفكر في المصير المظلم الذي يمكن أن يرتبه «ناصر» ومشايعوه في العالم العربي لنا، ولا يمكن أن أستريح إلا إذا كان لدى إسرائيل سلاح للردع النهائي يكون هو الحماية الأخيرة للشعب اليهودي».

ويضيف بن جوريون: «إننا فقراء في موارد الجغرافيا إزاء العرب، ولكننا أغنى منهم بموارد العقل والعلم، وأنا أنتظر من رجال مثل (أينشتاين) صاحب نظرية النسبية، و(أوبنهيمر) مدير المشروع النووي الأمريكي، و(تيللر) مهندس القنبلة الهيدروجينية الأمريكية، والثلاثة يهود، أن يقوموا من أجل إسرائيل بما قاموا به من أجل الولايات المتحدة الأمريكية»!

وكان بن جوريون بدأ يتحرك فعلًا نحو خيار نووي إسرائيلي منذ نهاية عام 1954، وكانت أول خطوة لبن جوريون هي تعيين العالم الألماني اليهودي الشهير «إرنست بيرجمان» مستشارًا خاصًا له للشئون العلمية. ثم قرر بن جوريون أن يكون المشروع النووي الإسرائيلي تحت الإشراف المباشر لرئاسة الوزراء، وليس رئاسة الأركان بالجيش كما اقترح بعض من حوله، وكان رد بن جوريون على اقتراحهم قوله: «رؤساء الأركان يجيئون ويذهبون مرة كل سنتين أو أربع سنوات، ونحن الآن أمام مشروع يتعلق به عُمر إسرائيل إلى آخر الزمن».

2- الإجابة: فرنسا!

وفق ما تقول به الوثائق الإسرائيلية طرح بن جوريون سؤاله الكبير، وهو: كيف يمكن لإسرائيل أن تُقيم مشروعها النووي، ومن ثم تقوم ببناء قُنبلتها النووية؟ وقد أحس بن جوريون أن هذا السؤال لا يمكن تأجيله، وخصوصًا أن خلافًا نشب في التقديرات والرؤى بين مستشاره العلمي د. بيرجمان، وبين مساعده السياسي وتلميذه النجيب الذي اختاره للتشهيل والمساعدة شيمون بيريز، كان موضوع الخلاف بين مستشار بن جوريون العلمي ومساعده السياسي هو الذي قاده إلى سؤال آخر وهو: هل هناك طرف سبق إلى تحصيل قُدرة نووية متطورة يرضى بأن يساعد إسرائيل فيها؟

وظل السؤال حائرًا بدون إجابة إلى أن توصلوا لأن الدولة الوحيدة التي يُحتمل أن تساعد إسرائيل نوويًّا هي فرنسا، وكانت المبررات هي:

أمريكا لن تقبل في المستقبل القريب على الأقل لأن مصالحها واسعة في العالم العربي، كما أن شركات البترول الأمريكية تملك نفوذًا على القرار السياسي الأمريكي في الشرق الأوسط.
بريطانيا حالة ميؤوس منها فقد قام نفور بينها وبين إسرائيل من قبل إعلان قيام الدولة اليهودية، مضافًا إلى ذلك أن بريطانيا مشغولة الآن بترتيب أوضاعها في العالم العربي.
الاتحاد السوفيتي لا يمكن حتى مفاتحته في الطلب الإسرائيلي، فهناك مشاكل معقدة مع الدولة السوفيتية، وهي مشاكل لها جذور تاريخية، كما أن لها امتدادات معاصرة أهمها موجة معاداة لليهود «بسبب قضية الأطباء الذين شارك بعضهم في علاج زعيم الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت جوزيف ستالين، ثم اتهموا بأنهم حاولوا دس السم له بتحريض من المخابرات الأمريكية».

وإذن تبقى فرنسا؟ ولكن المعضلة هل ترضى فرنسا؟ وبأية شروط؟

وفي بداية سنة 1955، جرى تكليف شيمون بيريز في استطلاع الأفق الفرنسي. وكان أول اتصال أجراه بيريز مع السفير الفرنسي في تل أبيب «بيير جيلبرت»، وقال جيلبرت لبيريز اذهب إلى باريس وتحدث معهم هناك في ما تريد، وأعطى جيلبرت نصيحة لبيريز ثبت مدى نجاعتها، وهي قول السفير لبيريز: «اذهب إلى فرنسا ولا تُضع وقتًا كثيرًا مع الساسة فيها، وإنما حاول أن تتصل بوكلاء الوزارات الدائمين، فهم القوة الحقيقية الآن في باريس؛ لأن السياسة الفرنسية الحزبية تشهد حالة هزلية من عدم الاستقرار نتيجة لأزمات الجمهورية الرابعة في فرنسا، وهي أزمات مستعصية جعلت كل الوزراء في مهب الريح، وبالتالي ركزت السلطة الفعلية في يد البيروقراطية». وسافر بيريز ونفذ نصيحة جيلبرت، وكان الرد الذي تلقاه من البيروقراطية الفرنسية إيجابيًّا.

ومن المدهش أن شيمون بيريز حمل تقريره عن لقائه بالسفير الفرنسي إلى دافيد بن جوريون رغم أنه لم يعد في ذلك الوقت رئيسًا للوزراء بل كان «أبًا» غاضبًا من جميع «الأولاد» ومعتزلًا في مستعمرة سد بوكر. لكن الوثائق تُظهر أنه من هناك حيث «اعتزل» كان لا يزال يُشير ويوجه ويدير، وإليه وليس لرئيس الوزراء الذي خلفه «موشى شاريت» يعود كل المنفذين في إسرائيل، خصوصًا في الجيش والمخابرات، وحتى وزارة الخارجية التي احتفظ بها شاريت لنفسه!

كان بن جوريون خلال الاتصالات السابقة على اجتماع «سيفر» الذي تم فيه إعداد وتوقيع مؤامرة العدوان الثلاثي على مصر، قد استغل رغبة فرنسا في دور إسرائيل في فخ سيناء، وإذا به يطلب «مفاعلًا ذريًّا صغيرًا لإسرائيل»، وبعد أن توقف إطلاق النار على جبهة القناة، ذهب شيمون بيريز إلى لقاء مع «جي موليه» رئيس وزراء فرنسا الذي وجد عليه واجب طمأنة إسرائيل بعد أن خاب فخ السويس، وإذا ببيريز يقول له: «حسنًا يا سيدي رئيس الوزراء، إن إسرائيل تريد مفاعلها الصغير كما وعدتم!». وهز جي موليه رأسه موافقًا.

3- اعتراض على الطريق.. بن جوريون يُفضي بالأسرار؟!

في تلك الأثناء أرسل عدد من أصدقاء العالم بيرجمان المسئول عن البرنامج النووي الإسرائيلي يحذرونه من مخاطر دخول إسرائيل إلى الطريق النووي وحججهم متنوعة منها، أمنية وأخلاقية. وفيما تقول به الوثائق الإسرائيلية فإن العالم بيرجمان قرر أن يحمل هواجس الجميع ويضعها أمام بن جوريون، وانتظر بعدها بيرجمان الإجابة من نبي إسرائيل الجديد! وتولى بن جوريون إقناع بيرجمان مُركزًا على حُجتين:

الأولى: إن خطر إبادة الشعب الإسرائيلي بحصار وسلاح أعداء محيطين بدولة إسرائيل من كل ناحية يفرض على «الدولة» أن ترتب لنفسها قوة ردع تقدر على كبح نزعات العدوان العربية!

والثانية: هي قول بن جوريون لبيرجمان كما تسجل الوثائق بالحرف:

لك أن تطمئن إلى أن «القنبلة» عندما نصنعها لن تُستعمل، لأن مجرد معرفة العرب أو شكهم في أنها عندنا سوف يفرض عليهم أن يتعقلوا، ويلزموا الحذر. وإذا خابت تقديراتنا واستبد بهم الجنون، إذن فإننا نكون في حِل من حماية أنفسنا ضد الإبادة. ويضيف بن جوريون: إنني أتعهد لك وللجميع بأن القواعد التي سنضعها لاستعمال القنبلة سوف تفرِض على أي مسئول إسرائيلي يكون في السلطة يومها ألا يلجأ إلى هذا السلاح إلا عند اللحظة الأخيرة. ثم أضاف بن جوريون بالعبرية: «ميكرع هاكول» أي «عندما يكون كل شيء مهددًا بالضياع». وفي الوثائق الإسرائيلية فقد أصبح احتمال استعمال القنبلة هو سيناريو «ميكرع هاكول».

4- تفاصيل استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب

وفي اجتماع تالٍ لأرسطو إسرائيل «دافيد بن جوريون» ! مع كُل من بيرجمان وشيمون بيريز شرح بن جوريون سياسته، وقد لاحظ أن بيرجمان ما زالت تراوده الهواجس حول أخلاقية ما يفعله. وقال بن جوريون نصًّا:

أريدك أن تعرف يا عزيزي البروفسير، أن ما أطلبه منك هو أن تساعد على أن يكون لهذا البلد إسرائيل رادع نهائي، وأنا أريده بالدرجة الأولى رادعًا «نفسيًّا» وليس رادعًا «حربيًّا». وأطمئنك إلى أننا لا ننوي الإعلان عنه إذا توصلنا إليه، والسبب أننا إذا أعلنا عنه فسوف يهرول العرب على الطريق نفسه، وهم يملكون من الموارد ما يزيد كثيرًا عما نملكه، ثم إن السوفييت قد يتقدمون لمساعدتهم كما حدث في حالة السلاح التقليدي، ونحن لا نريد أن يصل هذا السلاح إلى يد العرب بأي ثمن، لأنه سوف يغريهم باستعماله غير مُقدرين للعواقب، وخصوصًا أنهم لم يتأهلوا بعد لثقافة الردع. إسرائيل تفهم بشكل أفضل. تعرف أن وجود هذا السلاح يُغني عن استعماله، ثم إن شك العرب في وجوده لدى إسرائيل مفيد أكثر من يقينهم أنه هناك. الشك يوقعهم في حيرة خصوصًا إذا عرفوا حجم الجهد المطلوب عمليًّا، وحجم الموارد المطلوبة ماليًّا.

ويكمل بن جوريون مخاطبًا بيرجمان: أريد أن أطمئنك أكثر يا عزيزي البروفيسير إلى أن إسرائيل لا تفكر من الأصل في حل عسكري حاسم يُنهي عداء العرب لها. وسوف أقول لك لماذا؟

الحقيقية الأساسية في أوضاعنا أننا لا نستطيع توجيه ضربة قاضية للعرب؛ لأن لديهم ميزتين لا تملك إسرائيل أيتهما:

الميزة الأولى عند العرب أننا إذا ضربناهم بكل قوة تراجعوا إلى أعماق أوطانهم ولاحظ أن العكس ليس صحيحًا في حالتنا لأن «إسرائيل بلا عمق».

والميزة الثانية عند العرب أننا لو قتلنا من جنودهم عشرات ألوف، أو حتى مئات ألوف، فإنهم قادرون على تعويض خسائرهم من البشر في ظرف شهور، وإذا حدث ذلك لإسرائيل، وفيما يبدو خاف بن جوريون من نذير الشؤم فأضاف «حماها الله» فإن هذا البلد ليس فيه فائض بشري يمكن التضحية به.

محصلة ذلك، لكي تكون الحقائق ماثلة في فكرك وضميرك طول الوقت:

أننا لا نستطيع هزيمة العرب بضربة قاضية، وهم يستطيعون إذا تمكنوا. إن لدى العرب موارد هائلة خصوصًا من البشر، ونحن في الدم أمام حساب عسير، لأن الدم اليهودي نادر!
وإذن ففكرة معركة عسكرية حاسمة بالأسلحة النووية يجب أن تخرج من كل التقديرات. نحن مُعرضون لها، ويجب ألا نسمح للعرب بفرصة تمكنهم منها.

ويصل بن جوريون إلى نوع الحرب التي يراها ممكنة مع العرب فيقول:

نحتاج مع العرب إلى مفهوم في الحرب جديد، ورأيي أنه يجب أن تكون حرب استنزاف متواصلة ونشيطة في كافة المجالات، وهذه الحرب يجب أن تكون سياسية ونفسية، واقتصادية، وعسكرية إذا اقتضى الأمر «شرط أن نعرف أن للسلاح حدودًا في حالتنا مع العرب»، العرب بطبيعتهم نفَسُهُم قصير، وهم يستطيعون تعبئة جهودهم لفترة زمنية محدودة، لكنهم إذا طال الوقت تراخت تعبئتهم، وضعفت حماستهم، وأخذتهم شواغل أخرى غير تلك التي جمعت بينهم.

وما زال السياسي المحنك بن جوريون يُفضي للعالم بيرجمان قائلًا:

هناك حقائق أخرى تخُص العرب، تناقضاتهم الداخلية بينهم وبين بعضهم عميقة، علاقاتهم بالعالم حولهم سيئة، وهم برغم علاقاتهم العملية المهمة مع الاتحاد السوفيتي لا يعرفون الروس ولا يحبونهم؛ لأن الحكام العرب يخشون على مصالحهم من الشيوعية، ثم إن الفقراء العرب يخشون على دينهم من الإلحاد. وفي الاجمال فإن بعض الحكام العرب يعتقدون أن موسكو تعبئ لهم الثورة، وبعضهم الآخر يظنون أنها تعبئ لهم الكُفر داخل صناديق الأسلحة!

إن هذه الأحوال كلها تساعدنا على حرب استنزاف متواصلة ونشيطة ضدهم. وترتيبًا على ذلك فإن الأفضل لنا أن نصل بهم إلى حيث يسقطون من الإعياء ما دُمنا لا نستطيع أن نفرض عليهم بالسلاح قبول وجودنا. وفي الوقت نفسه فإن سقوطهم من الإعياء سوف يتولى تحييد معظم أسباب قوتهم مالية أو سياسية أو معنوية. لأنهم في حالة السقوط من الإعياء سوف «يغلطون» مع الجميع، ويوجهون المسئولية إلى كُل الأطراف، ويجنبون أنفسهم أي نصيب منها، وهذا يكفل ألا يكون سقوطهم من الإعياء لمجرد الإرهاق المادي، ولكنه في هذه الحالة الإرهاق المعنوي، وهو أقرب وسيلة إلى فقدان الثقة بالنفس، وذلك أفضل الأوضاع بالنسبة لنا!

ثم يصل بن جوريون إلى بيت القصيد فيقول لبيرجمان:

«هذا النوع من الحرب لا يحتاج إلى ما يمكن أن تعطيه يا سيدي البروفيسير لإسرائيل، لكن ما يمكن لك أن تعطيه يساعدها من حيث هو يُطمئنها ويُريح بالها ضد أية مفاجأت لم تكن تأهبت لها. تلك سياسة إسرائيل شرحتها لك، ولم أخف عنك شيئًا».

5- «نحن نريد عملية تدويخ قبل الدخول في الكلام الجد!» بيريز لميتران

تركت قلمي وسرحت بخاطري، ومر شريط الصراع أمام عيني حتى توقف عند لحظة توقيع اتفاقية أوسلو «سلام الشجعان كما كان يطلق عليه ياسر عرفات!» كان الهدف الإسرائيلي من توقيع اتفاقية «أسلو وأخواتها» في ما بعد هو:

إعطاء الشعب الفلسطيني أملًا في إنهاء معاناته بدون تضحيات لكي تخف مقاومته ويسهل ترويضه.
سحب البساط من تحت أقدام القيادة الفلسطينية (عرفات ورفاقه) وتحويلهم في نظر شعبهم من «مناضلين ضد إسرائيل» إلى «مفاوضين مع إسرائيل» والفرق كبير بين المعنيين.

ويروي الأستاذ «محمد حسنين هيكل» رحمه الله أنه في نهاية عام 1993، أي بعد أسابيع من إعلان اتفاق أوسلو قابل الرئيس الفرنسي وقتها «فرنسوا ميتران» في «قصر الإليزيه»، وأنه سأل الرئيس «ميتران» إن كان يتوقع قريبًا نتائج مع الآمال المعلقة على اتفاقية أوسلو.

ورد «ميتران» بما ملخصه «أن ذلك يتوقف على ما أعنيه بكلمة قريبًا؟» وقلت أي «هيكل»: «إنني لا أتحدث عن غد أو بعد غد ولكن عن أشهر خمسة أو ستة»، ورد «ميتران» بما مؤداه «أنه سوف يكون راضيًا إذا توصل الطرفان إلى حل خلال خمس أو ست سنوات وليس شهور»، وأضاف «ميتران» بنبرة أقرب إلى التساؤل منها إلى السؤال: «فهمت أن عرفات متفائل بنتائج سريعة؟»، ويومها قلت للرئيس الفرنسي مندهشًا: «إنني لا أتصور أن عرفات بعد كل هذا الذي قدمه قادر على الانتظار خمس أو ست سنوات». ورد هو بسرعة قائلًا: «وهذا بالضبط ما يريدونه».

ثم راح يروي لي طرفًا من تفاصيل حوار بينه وبين «شيمون بيريز» قبل أيام، قال لي إنه بنفسه سأل «بيريز»: «هل لديكم ما تقدمونه لعرفات بعد هذه المخاطرة التي أقدم عليها باتفاق أُسلو؟»، ورد عليه «بيريز» بـ«أنهم لم يفكروا بعد!»، ولم يصدق «ميتران» أن ذلك يمكن أن يكون صحيحًا، فسأل «بيريز» بما معناه: «ألم يكن لكم تصور لمشروع تطرحونه على الفلسطينيين عندما دخلتم معهم في مفاوضات سرية في أوسلو؟».

ورد «بيريز»: «بأن كل تصورهم كان أن يتعاملوا مع قيادة منظمة التحرير نفسها، وليس مع وفد يحمل ورقة تفويض بالكلام نيابة عنها في مدريد أو واشنطن».

وأضاف بيريز إيضاحًا قال فيه: «إننا شعرنا أن الفلسطينيين يتحتم عليهم تخفيض سقف توقعاتهم، وأن أي وفد يحمل تعليمات من القيادة الفلسطينية لن يستطيع القيام بهذه المهمة، وعلى فرض أن وفدًا فلسطينيًّا فهم هذه الضرورة وتصرف بالتجاوز مع تعليماته، فأسهل الحلول تغييره بوفد آخر، وأما إذا كانت القيادة نفسها هي المفاوض فمعنى ذلك أن الجالس أمامنا هو الذي يملك القرار، وحينئذٍ يكون الباقي علينا».

وطبقًا لرواية «ميتران» فإنه حين طلب من «شيمون بيريز» مزيدًا من الشرح، سمع من «بيريز» ما معناه «أنهم يحتاجون وقتًا طويلًا يأخذون فيه الفلسطينيين إلى مائدة المفاوضات، ثم يعودون بهم من قرب المائدة، ويطرحون عليهم صيغًا واسعة مفتوحة لكل الإجهادات، ثم يأخذونهم معهم إلى تمارين في الصياغة قد تكون مفيدة في تعليمهم دون أن تكون بالضرورة مؤدية إلى اتفاق معهم، ثم إنهم سوف يعرضون عليهم وساطات ووسطاء يذهبون بأفكار ومقترحات ويجيئون بأفكار ومقترحات، ويتركونهم يذهبون إلى واشنطن ونيويورك، ويعودون من واشنطن ونيويورك، ثم يكون من هذا الجهد كله أن يؤقلم الطرف الفلسطيني نفسه تدريجيًّا على كيفية تخفيض سقف توقعاته».

وحين لاحظ «ميتران» أنني أسمعه باستغراب، اختصر الطريق ليقول بسرعة: «اعترف لي بيريز صراحةً أن علينا جميعًا أن نعطيهم فرصة لعملية (تحضير) سياسي يؤدى إلى تخفيض سقف توقعات الطرف الفلسطيني». ثم وضعها على بلاطة كما يقولون ليضيف: «كيف أقولها لك؟… هم يريدون عملية تدويخ قبل الدخول في الكلام الجد!».

أي أن شيمون بيريز في أوسلو كان يطبق مع الفلسطينيين وعرفات وقتها ما علمهُ له أستاذه دافيد بن جوريون قبل 38 عامًا.

ورغم مرور كل تلك الفترة، ورغم اتضاح الحقائق، فلا زال العربي مصابًا «بالهوس»، وآية ذلك ترديده لمقولات من عينة «السلام الشامل والعادل» و«السلام خيار استراتيجى» و«مبادئ الشرعية الدولية»، ولعلهم سيقلدون قريبًا هؤلاء المجاذيب في حي السيدة زينب أو سيدنا الحُسين، حينما يقفون بعد صلاة الجمعة متمايلين بأجسادهم بدون هُدى يمينًا ويسارًا زاعقين: «مَدد يا سيدي بنيامين نتنياهو مَدد».. «حَي!».
رابط المقال: اضغط هنا

مجدي منصور, محامي مصري وكاتب سياسي

مجدي منصور كاتب سياسي مصري له العديد من المقالات والدراسات المنشورة بكبرى المواقع ك (ساسة بوست - نون بوست - هاف بوست- عربي بوست - روافد بوست).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى