ازمة لبنانالاحدث

سنة على اغتيال المدينة (١٣) :التَّداعيات الاقتصادَّية والجيوسياسيَّة لتفجير وجه لبنان | كتب البروفسور مارون خاطر 

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

 

تَزامَنَ تفجير مرفأ بيروت مع اشتداد الازمتين الصحيَّة والاقتصاديَّة، فشكَّل الصوت المُدوّي للانهيار الموعود. في ٤ آب ٢٠٢٠، دُمِّر مرفأ بيروت ودُمِّرت بيروت، طُعِنَ قلب لبنان وفُجِّر وجهه!

لتفجير المرفأ تداعيات ذات أبعاد اقتصاديَّة وجيوسياسيَّة وهي بمجملها متداخلة ومتشابكة داخلياً وخارجياً.

في الاقتصاد، تأثَّرَت الإمدادات الغذائية التي يشكِّل الاستيراد ٨٥٪ منها. أُغلقت بوابة لبنان ومَنفَذُهُ على العالم، سُحِقَ المِرفَق الذي يؤمن أكثر من ٧٠٪ من الحركة التجارية وقُرابة٩٠٪ من حركة الحاويات. خَسِرَت الدولة مداخيلَ كبيرةً تُقَدَّر بنصف مليار دولار سنوياً. لم يبقَ للبنان إلَّا الفرص الضائعة بفعل عدم القدرة اللوجستية والتِقنية على إعادة تشغيل المرفأ في المدى المنظور من جهة، وبسبب فقدان الثقة بالدولة اللبنانية الفاشلة من جهةٍ ثانية. إقتصادياً، أصبح الرابع من آب يوماً أُعلن فيه لبنان بلداً منكوباً. تُشير اليونيسف بناءً على مسحٍ أجرته في تموز ٢٠٢١ الى أن ٧٠٪ من العائلات المُستَطلَعة آراؤها طلبت مساعدات غذائية بعد التفجير وأنَّ وضعها لا يزال سيئًا وأنَّ حاجتها للمساعدة في ازدياد دائم.

من ناحية اخرى، تشير نتائج المسح إلى أنَّ ٥٠٪ من البالغين لا يزالون يعانون من ضغوطات نفسية بسبب هَول الكارثة. التفجير الذي دمَّر المؤسسات والشركات والأعمال أدى الى فقدان الآلاف وظائفهم مما أجبرهم على طلب المساعدة لتأمين حاجيات أفراد عائلاتهم، خاصةً الأطفال.

ساهَمَ انتشار جائحة كورونا بتفاقم أزمة اللبنانيين المعيشيَّة والصحيَّة. تُشير ارقام الأمم المتحدة إلى أن فردًا واحدا على الأقل في واحدة من بين كل أربع عائلات أصيب بكوفيد منذ وقوع التفجير. في سياق متَّصل، أشار مسح اليونيسف المُشار اليه مسبقًا إلى أنَّ قُرابة ٧٠٪ من الأُسر المُستَطلعة لم تحصل على الرعاية الصحيَّة أو الأدوية منذ ذلك اليَوم المَشؤوم.

ألحَقَ التفجير اضرارًا متفاوتة الجسامة في أكثر من ١٦٠ مدرسة مما أثَّر على تعلُّم قُرابة ٩٠ ألف طالب في المدارس الرسميَّة والخاصة. أنهَكَ تفجير٤ آب ما تبقَّى من قُدرة اللبنانيين على الصمود. تُقدِّر الأمم المتحدة بأكثر من ٢ مليون شخص عدد اللبنانيين الذين يحتاجون إلى مساعدة إغاثيَّة لتغطية احتياجاتهم الأساسية، بما في ذلك الوصول إلى الطعام والصحَّة والتعليم والمياه.

أما البُعد الجيوسياسي لتفجير المرفأ، فمرتبطٌ، سببياً أو بالنتائج، بصراع المرافئ الدائر على الحوض الشرقي للمتوسط والقائم منذ زمن. في هذا الإطار، لا شكَّ في أنَّ تدمير المرفأ يُشَكِّلُ خدمةً لا بل هدفاً محققاً للعدو الإسرائيلي الطامع بإبدال مرفأ بيروت بمرفأ حيفا كجسر اقتصاديّ بين الشرق والغرب، إلى جانب أهدافٍ أخرى.

في سياق آخر متَّصل ومرتبط بالبُعدَين الجيوسياسي والجيوستراتيجي، تُشعل إعادة بناء مرفأ بيروت التنافس بين القوى والمحاور المتصارعة والراغبة في الاستثمار في ما بعد لبنان.

تُشكِّل المبادرة الصينيَّة الرَّامية إلى إحياء طريق الحرير القديمة والتي تمرُّ عبر مرفأ حيفا المحتلّ أحد أوجه هذا التنافس المريب. يتقاطع المخطط الصيني مع رغبة روسيا في تعزيز تموضعها في هذه البقعة الساخنة والدَّسمة، دون إغفال الاهتمام الإيراني باقتناص منفذ آمن ومُحَصَّن على المتوسط. في مقابل ذلك، تسعى الدول الغربيَّة، ولا سيَّما الاوروبية، ومن خلفها الولايات المتحدة، إلى الحفاظ على امتيازاتها عبر الدَّفع نحو حلول تُبعِدُ التحوُّلات.

يَدُلُّ تعدد العروض من جهة، وصَمتُ الدولة اللبنانيَّة المتخبِّطة في أزماتها حيالها من جهة ثانية، على وجود لبنان في عين عاصفة التجاذب الإقليمي والدَولي.

يشبه مرفأ بيروت المهدَّم والمعطَّل الدولة اللبنانية المنكوبة والمشلولة والفاقدة لعزيمة النهوض بإنتظار كلمة سرٍّ قد تكون: “مغفورة لك خطاياك، قُم، احمل سريرك وامشِ”.

بناءً على ما تقدم يمكننا القول أنَّ إعادة إعمار مرفأ بيروت لا بُدَّ أن تكون مرتبطةً ارتباطًا عُضويَّا واستراتيجيًّا بأسباب تفجيره. لذلك، وبافتراض تساوي العوامل الأخرى، وإذا كانت إعادة إعمار مرفأ بيروت مرتبطٌة بهوية مَن سَيَبنيه ومَن وراءهم، فهذه الجريمة تستهدف وجه لبنان وهويَّته وتَموضُعَه التاريخيّ.

يتماهى التفجير في أسبابه وأهدافه مع أسباب وأهداف الأزمة الاقتصادية في سابقتَين تنذران بخلط أوراقٍ قد يغيِّر معالم لبنان ويدفعه إلى مزيدٍ من المجهول القاتم.

٤ آب، جرحٌ مفتوحٌ على جميع الاحِتمالات، لا تُدمِله الأيام وقد تَشفيه الحقيقة! رُبَّما …


لمن فاتته متابعة الأجزاء السابقة:

البروفسور مارون خاطر، باحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة

أستاذ في جامعة القديس يوسف ومحاضر في كلية القيادة والاركان في لبنان. محاضر دولي في جامعة ليل في فرنسا. كاتب وباحث متخصص في الشؤون المالية والاقتصادية.له مداخلات مكتوبة ومرئية متخصصة دائمة في الإعلام اللبناني والعربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى