ازمة لبنانالاحدثالصورة الكبيرة

سنة على اغتيال المدينة (١٠): إضافة الإهانة إلى الأذية | بقلم د. بولا الخوري

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

تماهى اللبنانيون مع المرفأ وجروحه وتشويهاته منذ اليوم الأول للإنفجار كأن ما أصابه هو تعبير مطابق لمأساتهم ومعاناتهم والآمهم.

حتى مبنى إهراءات القمح الذي انتزعت منه احشاءه ما زال يقف بتحد في مواجهة المدينة بجروحه المفتوحة، كما لو أنه يناشد الناجين أن يأتوا ويبلغوا عما حلّ به وليبكوا معاً مصيرهم المشترك.

لم تقع الصدمة الناجمة عن الانفجار على المتضررين المباشرين فقط، بل على سائر اللبنانيين. لقد فعّلت الرهاب المتراكم الذي يعانون منه منذ أكثر من 45 عاماً، وهي أعوام ظلت محفوفة بالمخاطر الكبرى والمفاجئة على حياة كل منهم وأهله ومحبيه، وكأنهم وسط لعبة روليت روسية متواصلة.

وها هم يتحققون بعد عام على الانفجار بأن دولتهم وأربابها المسؤولين المباشرين عن هذه الجريمة لن يقوموا بأدنى واجباتهم من مرافقة المتضررين والتعويض عليهم وإعادة الإعمار سريعاً، بل يرفضون الإعتراف بمسؤوليتهم ويأبون سوق المسؤولين المباشرين الى المحاكمة لإظهار الحقيقة. ووصل بهم الأمر أخيراً حد التعرض لأهالي الضحايا بالضرب والعنف أمام منزل وزير الداخلية.

وفي مجمل هذا السلوك ما ينطبق عليه القول الإنكليزي الشهير: إضافة الإهانة الى الأذية.

قبل حوالي عام وفي مقابلة مع موقع العربية الإنكليزي قلت عند سؤالي عن فهمي لما سميّ آنذاك بسياحة الكوارث: أن الناس الذين كانوا يتهافتون الى مكان الحدث حتى قبل رفع الردم أو انتشال الجثث، لم يكونوا بالضرورة مستخفّين بالكارثة أو بأوجاع الناس بل كانوا يعبرّون بسلوك منحرف عن مخاوفهم هم واضطرابهم النفسي.

فما حدث للبنانيين بعد انفجار المرفأ، والذي شبه بالضربة النووية، هو حالة نموذجية لما يسمى باضطراب ما بعد الصدمة ويختلف الناس في ردود أفعالهم تجاه المواقف المماثلة، ومنها ما يكون منافياً للمنطق تماماً.

إن الذهاب مباشرة الى مكان الحدث هو نوع من طمأنة النفس بصورة غير واعية: “لست أنا من مات هناك”. وهو سلوك ملتبس نفسياً لأنه يعني أيضاً: “كان من الممكن أن أكون أنا”. فانفجار المرفأ لا يشبه ما يعرفه اللبنانيون من أحداث أمنية تندلع بين أطراف طائفية بين حين وآخر، بل هو نموذج للخطر مجهول المصدر الذي يمكن أن يحصل لأي منهم في أي مكان وزمان.

من ناحية ثانية، أعيد نشر الصور ومقاطع الفيديو التي التقطها لبنانيون عاديون للانفجار وبثت في جميع أنحاء العالم، ومنها ما تصدر عناوين وسائل الإعلام والتواصل العالمية. فسرعان ما أصبح هذا “الحدث” المحلي حدثًا دوليًا، وترافق مع تعبيرات عن التضامن والتعاطف مع اللبنانيين، أولئك الذين كانوا يرون أنفسهم، في تلك اللحظة، على أنهم ” غير مرئيين” متروكين لحالهم في مواجهة السياسيين الفاسدين ومشاهد الرعب. لذلك شعروا حينها بالحاجة إلى نوع من إعلان الوجود ولتسجيل حقيقة أنهم كانوا جزءًا من هذا الحدث المهول، وكأنهم يقولون للعالم: ” كنا هناك وشاهدنا الرعب بأم عينينا … هذا هو ميناءنا … هؤلاء الضحايا هم منّا ولنا!”.

حتى صور الـ “سلفي” في مكان الانفجار والتي لا خلاف بأنها بدت مهينة ومفتقدة للإحساس فإنها الأكثر تعبيرا عن هذا الإلتباس النفسي. فالذين أخذوها يقولون بطريقة مواربة: “أنا لا أزال على قيد الحياة وبصحة جيدة ومظهر لائق.”

هذا السلوك المضطرب يجد أساسه في السلوك العادي للبنانيين منذ سنوات، فكلما تم تدمير وتبشيع محيطهم الحيوي كلما سعوا الى تجميل منازلهم ومظهرهم ومجالهم الخاص. ولا يمكن تفسير ذلك بمجرد خفة السلوك أو حب الظهور، بل إنه يعبّر بوجه خاص عن رد فعلهم على العيش في إطار حياتي مشوّه والشعور الدائم بافتقاد الأمان، وكأن الجسد والمجالات الحيوية كالبيت والسيارة والحديقة يقومون بديلاً عن المجال العام الذي أصبح بشعاً ومحفوفاً بالمخاطر.

كما يعبّر ذلك أيضاً عن تحريف لمعاني المأساة من أجل الاستمرار. فإما أن يستسلم المرء كلياً أو يمضي قدمًا وكأنه يتحدى الظروف التي لا قدرة له على ردئها. ومنذ سنوات، لم يعد متاحاً للبنانيين الاستسلام!

يبدو اليوم أن السلوكات المضطربة التي ظهرت مباشرة بعد الحدث قد تراجعت شيئاً فشيئاً، بشكل خاص بفعل صلابة ومناعة مواقف أهالي الضحايا. حتى أن الطروحات الطائفية بدأت بالتراجع. فأمام غياب المحاسبة وعدم إيصال الأمور الى خواتيمها يتمترس اللبنانيون عادة وراء الطائفية كسلوك دفاعي نابع من الشعور بالعار الذي تلحقه بهم أحزابهم الطائفية على الدوام. فتصبح الطائفية عذراً لرمي المسؤولية على الآخر، كمن يقول: هذا العار ليس من فعل جماعتي أو ديني أو طائفتي. وفي ذلك دفع للعار عن الذات بالدرجة الأولى.

لقد لعب النضج السياسي والمعنوي الذي تمتع به أهل الضحايا ومن وقفوا جنبهم دوراً حاسماً في انقلاب المشهد. فأهالي الضحايا هم أناس عاديون ومنهم من أتى من قرى بعيدة، دفعتهم الظروف الى اتخاذ مواقف كبرى فضلاً عن الانخراط بجدارة في مستوى من العلاقات السياسة أو الكلام أمام المسؤولين والإعلام، بما في ذلك فهم الموضوعات القانونية الصعبة واستخدامها لدعم قضيتهم. ذلك بكل إباء وتعال على الجروح والآلام.

نعرف من أحداث مماثلة أن تفكير الناس بما حصل لمفقوديهم وقت الحدث وبعده ينطوي على معاناة كبيرة يعتريها اللوم الذاتي وتأنيب الضمير، فيشعرون أنه كان بإمكانهم فعل شيء لتفادي الأمر: “لو كنت هناك فقط، كان بإمكاني منع ذلك…لو لم أسمح له أو لها بالخروج في ذلك اليوم”. او يعذّبون أنفسهم بأسئلة بلا إجابات من مثل “كيف شعر الضحية قبل مماته وهل عانى وتوجع؟” ويمكن أن يستمر الأمر على هذا النحو لسنوات ما لم يجدوا إجابات تشكل خاتمة لعذاباتهم.

فالمسألة لا تتعلق بالنسبة لهم بمحاسبة المسؤولين ولا بالتعويضات فقط، على أهميتها لمن فقدوا معيليهم، لكنها دليل على الإقرار بالمسؤولية، فما يريدونه هو كشف الحقيقة كاملة وبتفاصيل ما حدث للإجابة عن اسئلتهم الصعبة هذه. والحقيقة وحدها تتيح لهم البدء بفترة الحداد القاسية والطويلة هي الأخرى، خاصة أن الكثير من أهالي ضحايا المرفأ لم يعرف حتى اليوم مصير ضحاياه أو تمكن من استعادة جثثهم.

ربما كان أهم ما فعلوه حتى اليوم هو أنهم عزّزوا القناعة لدى الشعب بأن الضحية في لبنان أصبحت تمتلك صوتاً وفعلاً وأن محاسبة المسؤولين ممكنة.

علّ هذه تكون بداية لرد الأذية والإهانة للطبقة السياسية الحاكمة وهي من تستحقهما فعلاً.


لمن فاتته متابعة الأجزاء السابقة:

د. بولا الخوري باحثة وصحافية في علم الاجتماع

د. بولا الخوري، باحثة مشاركة في مركز التحليل والتدخل الاجتماعي CADIS في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس EHESS - CNRS. لدى الخوري خبرة لأكثر من 20 عاماً كعالمة اجتماع وصحافية، حيث تساهم في تعميم نظريات العلوم الاجتماعية في الصحافة بغية جعلها بمتناول الجمهور غير الأكاديمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى