سنة على اغتيال المدينة (١٧): مدينة خانتها شجاعة الرحيل | بقلم دلال قنديل
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
البحر.. عبور
رغيف خبز ساخن، مدهوناً بقليل من الزعتر وزيت الزيتون، لقمة الصباح الشهية، تحملها في خضم نهاراتها، الطويلة، الفسيحة. إستراحة من ضجيج المحيط. رفيقة البحر، منذ الصغر.
يرتفع موجه. تصغر همومها. متراكمةً، متفاعلةً في داخلها.
عوالم لا تهدأ.
تنقلت افكارها، بلا ندم خاضت تجاربها. إرتحالها، تقلب مراحلها. إستغرقها عمر لتكتشف أخطاءاً كان يمكن تلافيها. ظفرت بمحبين، بجمال اولاد، تنظر بحب لوجوههم، تسلية مراراتها.
تتأمل إبتساماتهم الآتية من بعيد، نسمات بحر باردة. تنعش انفاسها.
اصوات الصغار، قربها. يقذفون كرتهم، بإتجاهها. يوقظون شوقها، لطفلها، في الجانب الآخر، من العالم.
هجرته مدفوعةً، برغبة البحث، عن ما وراء الحدود لحياة أخرى.
تمهد طريقه لفرح مفقود. كانت تنعش صباحاته بالضحك. يمنحها الفرح بلا حساب.
مدينة سُخرت شوارعها، للقطط. تلاوين وبرها، لوحات متمازجة. تسرح بين طاولات المطاعم. لافتات بكل اللغات. تنشد مشاركة القطط حياتهم. من يشارك من؟
مدينة سياحية، مدرجة بين محميات العالم.
اسوارها القديمة، ليست عصية على القطط. كما على تقاطر، الباصات السياحية، على مدار العام.
شمس لاذعة، تشق بحيرتها الممتدة، زعانف اسماكها الملونة.. تتشارك فتات خبز.
تهوي الأرغفة، فوق سياج المطاعم من علو. تهبط اللقيمات تحت الطاولات، لقطط تشارك الرواد جولاتهم.
قطة سوداء، وبرها الطويل، أضفى غنجاً عليها.
لو كانت قطة، راودها الشعور للحظة. تأملت عينا القطة. لطالما ذاك الاخضر، المتمازج بهالة الاصفر المأسور بحدقة سحرها.
تمؤ كقطة، تتثاقل أحشاؤها، تتوقف عن السير. برهة قبل ان تمضي.
كيف تتخفف من أحمالها؟ ارقها؟
تطوف الأسئلة برأسها.. هل بالغت بالقفز بعيداً ؟
تزفر لبرهة.. ينقلب السؤال
كيف تحملت عمراً من الأسى؟
هل كانت شريكة؟
كل هذا التدمير، لا تصنعه، إرادة واحدة.
المعول تشارك عديدون لحمله. توالوا بالهدم، لكل مطامعه.
الحلم ايضاً، يشعرها بالذنب اليوم.
كيف إستسلمت لغباء فكرة إعادة البناء. ؟
كيف للحلم أن يكون جريمة؟
تستعيد صوت صديقها المصور المعروف، يقول في لقاء، جمعهم، مع رمز من زمن اليسار، شاعر وكاتب، أنتم شاركتم بصنع الحرب قال له.. انتم دفعتم بنا الى آتونها.
إستوقفت كلماته الشاعر، لم يجب. كان روى سيرة عذاباته واعتقاله مرتين، مرة من جيش غزى البلاد، ومرة من نظام فاسد إدعى حمايتها. رواد النظريات، للمواجهة، لم يقطفوا ثمرات إنتصاراتهم. تركوا الغنائم مضوا لعزلتهم. لم يُجب.. ساد الصمت. أعاد كل منا الى تجربته، المغلقة، ذوات تطوق للتحرر. اعمار فائضة، كل منها زائد، أمام هول الموت ملاحقاً، حتى الكوابيس.
ترك الصمت زمناً يعبر من الذاكرة المشحونة. مقالات لقلة من الكتاب. تحفز النقاشات. تقتات السياسات، بحثاً عن سبيل. عن وطن، ضاع في صياغة البدائل.
… شباب كانوا..، أخذتهم الحماسة للاحلام. رمتهم التجارب في أنحاء العالم، مهنهم تنوعت، حياتهم مشدودة لتلك البدايات.
يتباعدون، تبقى صورهم. يبعدونها الى حشايا الذاكرة. يستعيدون الأمان. تقفز أمامهم. قدر محتوم تلازمهم.
شهدوا ولادات متكررة.. لصيغ سلام هش لم تدم طويلا. شهدوا دماراً متتالياً.. الى أن حلت الكارثة.. الفاجعة. صفعة صحت اوجاعهم دفعة واحدة.
… فاجعة… لا تُصدق، من ركنها البعيد، كيف عبرت تلك الماساة.
ضباب أصفر غطى المدينة لأيام. أطبقت المنازل على ارواح قاطنيها.
لاتطلوا من النوافذ. لا تتركوا الهواء الملوث يتسرب الى رئتكم. سم قاتل. مواد اليورانيوم، محملة بعصف الإنفجار المهول. فوهة إنفجار، غمامة زلزلت الأبنية، بمحاذاة البحر، حتى أعالي الجبال.
تراءت وجوه الضحايا، صفيحة موج تعوم. زرقة البحر إحمرت. أسماكه تلاشت، طعمها، بشري. قاطعت البحر أشهراً. عاتبة عليه. رحب، فسيح، حمال اسى المدينة، كيف إرتضى إحتمال ركامها؟ إبتلع جثث ضحاياه؟
أي كارثة غيرت، وجه المدينة؟
كيف النسيان، يصبح درب خلاص؟ كيف نسلكه ؟ نتخفف من آلامنا.. الإبتعاد هل يكفي للتخلص من الأحمال؟
يضج رأسها بالأسئلة. تُسكت الماضي. تستسلم لموج البحر قبالتها.
أغمضت عينيها.. تراءت لها وجوه، حملها الموج، تلون بدمائها، ذاك اليوم المشؤوم.
نامت المدينة، ملفوفة بدماء أبناء، غطت الشوارع. المارة لفوا أجسادهم، غطاءاً للجرحى،
وضعوا القتلى بمحاذاة الأرصفة.
سيارات الإسعاف، لم تصل. ركام الأبنية، سد طريق عجلات السيارات. أطبقت السقوف على وجع الصرخات الدامية.
مسنون.. شبان.. اطفال.. لحظة، تبعثرت حياتهم، كما المدينة التي أصبحت ماضياً… ثوان معدودة، جعلتها مجرد صدى.. لهول إنفجار مفجع.
فقدت تركيزها لأشهر، دموعها الغزيرة، ترافق يومياتها.
تواكب مآسي، أهالي الضحايا. الجرحى بالآلاف، لا يحتملون آلامهم، مسنون بلا مأوى.
جنى أعمارهم.. تبدد..
سمعت انينهم يضج ليلها.. سهاد.. اسابيع تلملم المدينة جراحها. لم تهتد السبيل، لتهدئة غضبها. كيف لم يبدل مسؤول صورة من صوره ؟كلمة من كلماته؟
كيف تتواصل الحياة، هناك في قصورهم، على مقربة منها، مقبرة جماعية لمدينة بأهلها.. تحيي سيرة القتل المتعمد لوطن.
هل خانتها الشجاعة بالرحيل؟
هل تستكين يومياتها، على حد الوجع المتناهي، متماديا، لأحشاء قلبها، متفلتة من هناك… متتبعة ادق التفاصيل.
يثقلها تعداد السنوات. تكر سيرها. وجوه متساقطة امامها. جدار فوق جدار. سور يحوط رأسها. يحجب نومها. سلاسل تعمد للفكاك منها. تلح عليها الفكرة. خلعت باب الذاكرة، لتكتب، لترمي عنها الماضي، لتمضي.. ما زال خلف الزجاج المعشق وجه ينادي..
طفلة الرابعة نجت من قذف الإنفجار، أشهرُ عصفه يصدعُ رأسها، باحت لأمها أنهم موتى، يظنون بإستمرار حياتهم لكنهم قضوا بالإنفجار.. وهم حياتهم ليست حقيقة.. كيف تعايشت الطفلة، مع فكرة الفقد، غاب اخاها البكر وما زالت تنتظر.
في الجهة الأخرى من الحياة، واصلت طرق الأبواب لتعبر.
أربع سنوات أخرى تهاوت، ملمح وجع مفتوح على الفاجعة، تتراءى الصورة امامها.. ملوحةً بعلمها، خصلات شعرها الاشقر، وجهها المستنير، بسمة فرح، تلاشت.
سقط العلم، الطفلة صورة معلقة للذاكرة.
صمت غلف اسابيعها، تحكي بدموعها، لليال وايام. لا تقوى على النوم. سيّرهم، وجوههم، نحيب أهلهم والأصدقاء. يؤرقها الألم. فقدت القدرة على السيطرة. تقرأ إنها التروما الجماعية.
تنهمر دموعها، بلا إرادة، بلا توقيت. أمام الجموع. كانت الصورة، لحظة فقدان الأمان تلك. النزع الأخير لمدينة أحبتها. لحياة عاشتها. بكل ما فيها. من فرح وضجر. من حلم وقلق.
راهنت على الوقت. لم تفلح الأشهر، محملة بصور الجريمة، بمحو الفاجعة. بإزاحتها برهة. فقط لتستريح.
كان الموت صاخباً، فتاكاً، فائق القدرة على إحتمال خساراته.
بقايا الابنية المتهدمة، تتدلى لجهة اشجار الحور، متشلعة الاغصان.
لم ينج من براثن الكارثة، الذين نجوا.
شقٌ في الأرض، زلزلزل المكان. فجوةٌ ابقت على هيكل فحمي، بجدران بنيت ذات تاريخ. صمدت تبوح، ان مدينة مشت من هنا.. قبل أن يقضمها الطغاة. إبتلعوا البحر، وزعوه حصصاً، قبل حين، من إبتلاعه المدينة.
لمن فاتته متابعة الأجزاء السابقة:
- سنة على اغتيال المدينة (١) د. عدنان منصور يكتب: من ٤ آب إلى ٤ آب، تخاذل سلطة وعجز قضاء…
- سنة على اغتيال المدينة (٢): تنهض بيروت فينهض لبنان… وإلّا | بقلم توفيق شومان
- سنة على اغتيال المدينة (٣): في ذكرى الجريمة | بقلم د. حسن احمد خليل
- سنة على اغتيال المدينة (٤): بيروتشيما… انفجار مرفأ بيروت…| بقلم د.أحمد عياش
- سنة على اغتيال المدينة (5): لا حقيقة غير حقيقة الموت في حقول القتل | بقلم د. بيار الخوري
- سنة على اغتيال المدينة (٦): مجدي منصور يكتب لبنان من موطن لوطن
- سنة على اغتيال المدينة(٧): زمن التخبط والضياع، قراءة قانونية للعميد عادل مشموشي
- سنة على اغتيال المدينة (٨) : عام على “بيروت-مونيوم” … نكبة لبنان الحديث !! | كتب د. محي الدين الشحيمي
- سنة على اغتيال المدينة(٩): د. علوان أمين الدين يكتب عن إعادة إعمار المرفأ بين النفوذ والإقتصاد والسياسة
- سنة على اغتيال المدينة (١٠): إضافة الإهانة إلى الأذية | بقلم د. بولا الخوري
- سنة على اغتيال المدينة(١١) : انفجار المرفأ، الفساد يعادل الاحتلال | بقلم قاسم قصير
- سنة على اغتيال المدينة(١٢) : القضاء اللبناني هو صاحب الصلاحية للوصول الى مرتكبي جريمة المرفأ | بقلم المحامي عمر زين
- سنة على اغتيال المدينة (١٣) :التَّداعيات الاقتصادَّية والجيوسياسيَّة لتفجير وجه لبنان | كتب البروفسور مارون خاطر
- سنة على اغتيال المدينة(١٤): 4 آب الحقيقة لم تعد خافية على أحد! كتبت الأميرة حياة ارسلان
- سنة على اغتيال المدينة (١٥) : تفجير المرفأ وتدمير لبنان؟ | كتب أكرم بزي
- ملف سنة على اغتيال المدينة (١٦): لا عاصمة إلا أنتِ | بقلم أميرة سكّر